غالبا ما يتهيّب الباحثون من الخوض في الشؤون الداخلية للأحزاب السياسية المغربية، ليس لأن ذلك من محظورات البحث، وإنما بسبب ضعف المؤسسات الحزبية في المغرب، واستعصائها على التحليل، حيث يصعب على الباحث الذي يحلل الوقائع السياسية بأدوات علمية أن يحلّل مؤسسات لا تشتغل وفق المنطق العلمي، غير أن ذلك لا يعفي الباحث من التمييز بين هذه المؤسسات، والبحث في بعض الوقائع التي من شأنها إغناء الفكر السياسي ومراكمة الاجتهاد القانوني، سيما إذا ما توافرت عناصر علمية يمكن أن تنقل الكتابة من الحقل السياسي إلى البناء العلمي المرتكز على توجهات قانونية. وأظن أن ما حدث في أجهزة البرلمان المغربي، ودواليب حزب الاتحاد الاشتراكي، يقدم لنا أرضية مساعدة لمساءلة المتون القانونية المنظِّمة لعمل الأحزاب والفرق البرلمانية. وقبل التعمق في الموضوع من الوجهة القانوينة المحضة، تجدر الاشارة باختصار للواقعة التي نحن بصدد تحليلها؛ إذ يتعلق الأمر بالصراع السياسي الذي نشأ بين أعضاء حزب الاتحاد الاشتراكي منذ مؤتمره الوطني الأخير، وما صاحب ذلك من تجاذبات بغض النظر عن كُنهها وخلفياتها. فالصراع داخل المؤسسة الحزبية انتقل إلى مجلس النواب عشية تجديد هياكله كما ينص على ذلك النظام الداخلي، ورغم أن هذا الحدث عَرف العديد من الأحداث، إلا أن أهمها، من الناحية القانونية، ارتبط بالاختلاف حول تشكيل لائحة فريق الاتحاد الاشتراكي بمجلس النواب، حيث رفض كل من المكتب السياسي واللجنة الإدارية للحزب اللائحة التي تقدّم بها الرئيس السابق للفريق الممهورة بتوقيعات عدد من البرلمانين المنتمين لحزب الاتحاد الاشتراكي كما ينص على ذلك النظام الداخلي لمجلس النواب، ولم يكتف الجهاز السياسي للحزب بهذا الرفض وإنما قام بتزكية إحدى المرشحات لمنصب رئيس الفريق كما ينص على ذلك القانون الداخلي لحزب الاتحاد الاشتراكي، وفي خضم هذا السجال قضت المحكمة الإدارية بعدم اختصاصها في الدعوة المقدمة لها، والتي سعى من خلالها واضعها إلى وقف قرار المكتب السياسي استدعاء اللجنة الإدارية، على أساس أن مسألة اختيار رئيس الفريق هي من اختصاص أعضاء الحزب في البرلمان وليس هياكل الحزب. غير أن المكتب السياسي ألحّ في طلب اللجنة الإدارية (التي يصطلح عليها ببرلمان الحزب)، وأسفر اجتماع هذه الأخيرة على انتخاب رئيسة جديدة لفريق الاتحاد الاشتراكي (أو مجموعة نيابية)، ورفض اللائحة التي تقدم بها الرئيس السابق للفريق، بل وقام بتجميد عضويته بالحزب. وفي خطوة لها أهميتها في السياق هذا، قام رئيس الفريق المنتخب من قبل أعضاء البرلمان بتقديم استقالته من رئاسة الفريق بمبرر "خطورة الأوضاع، واستشعارا لجسامة المسؤولية". لكن وبغض النظر عن تطورات الأحداث في الموضوع، ما هي الاستنتاجات التي يمكن مراكمتها من خلال هذه الحيثيات السياسية والقانونية؟ وهل يفيدنا التحليل القانوني من أجل الحسم في أي من اللائحتين التي تحضى بالشرعية القانونية؟ أم أن التحليل السياسي تبقى له الأولوية من أجل البحث عن أسس مشروعية كل منهما؟ تدور فرضية هذه المقالة حول أن التحليل القانوني المحض يمنح الشرعية القانونية للائحة المقدمة من قِبل رئيس الفريق السابق، بينما يَمنح التحليل السياسي المشروعية لقرار اللجنة الإدارية. لا ننطلق من هذا الافتراض باعتباره مسلّمة، وإنما نسعى لتبيان صوابتيه أو تهافته، كما نحاول ملامسة بعض النصوص القانونية التي ربما تحتاج إلى تعديل على ضوء ما يمكن أن نصطلح عليه ب «واقعة الفريق الاشتراكي 2014«. لقد توسّل قرار انتخاب رئيسة فريق جديدة ورفض لائحة الرئيس القديم، الصادر عن اللجنة الإدارية، بالنظام الأساسي لحزب الاتحاد الاشتراكي الذي ينص في مادته ال 13 «تصادق اللجنة الإدارية على اقتراح الكاتب الأول بشأن رئاسة الفريقين البرلمانيين بعد استشارته كل فريق في الموضوع«. وفي هذه الحالة فإن قرار الحزب لا غبار عليه ويتوافق والمنهجية الديمقراطية داخل الأحزاب، حيث تقدّم إلى اللجنة الادارية مقترحان لرئاسة الفريق، فاختارت من رأته مناسبا. لكن هل النظام الداخلي للحزب هو الذي ينبغي اعتماده عندما يتعلق بتشكيل رئيس الفريق؟ بالعودة إلى القانون التنظيمي للأحزاب نجد أنه يشجع على الديمقراطية الحزبية، حيث ينص في مادته ال 3 على «أن الأحزاب السياسية تمارس أنشطتها بكل حرية وفق الدستور وطبقا لأحكام القانون«، أي أن الأحزاب ينبغي أن تراعي القانون العام أثناء تطبيق قوانينها الخاصة، وبمعنى آخر فإن الأنظمة الداخلية للأحزاب ينبغي عليها التقيّد بأحكام الدستور والقوانين التنظيمية، وهذا ما أكّدت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 24 من قانون الأحزاب عندما ذهبت إلى أن «النظام الداخلي يختص بتحديد كيفيات تسيير كل جهاز من أجهزة الحزب وكذا شروط وكيفيات انعقاد اجتماعات هذه الأجهزة«. وبالتالي فإن الأنظمة الداخلية ينبغي أن تكون مرجعية لجميع التصرفات السياسية والتأديبية التي تتعلق بكل ما هو داخلي للأحزاب السياسية. لكن ما العمل في حالة التشابك بين ما هو داخلي وما هو خارجي؟ هي العبرة بمرجعية القانون العام أم بمرجعة القانون الداخلي؟ في بابه الخامس المخصص ل «الفرق واالمجموعات النيابية« يخاطِب النظام الداخلي لمجلس النواب «النائبات والنواب« ويمنحهم حق تشكيل فرق ومجموعات داخل المجلس، معتبرا إيّاها الأداة الرئيسية لمشاركة النواب، هيئات وأفرادا، في العمل البرلماني (م 32). أما عن طريقة تشكيل الفرق والمجموعات، فالنظام الداخلي في مادته ال 33 يوكل ذلك إلى المجهول، وذلك بالتنصيص على أن «تُشكّل (بضم الميم) الفرق والمجموعات النيابية في مستهلّ الفترة النيابية ثم في سنتها الثالثة عند دورة أبريل لما تبقى من الفترة المذكورة، وتُبلّغ (بضم التاء) إلى رئيس المجلس لوائح باسم رئيس الفريق أو المجموعة النيابية وبأسماء أعضائها ممهورة بتوقيعاتهم... «إن المستفاد من هذا العرض المقتضب لبعض مواد النظام الداخلي لمجلس النواب، هو أن المخاطب لدى القانون العام (مجلس النواب) هو النواب والفرق والمجموعات النيابية، ولا مجال لأي فاعل غير هؤلاء في الأشغال والهياكل الداخلية للأحزاب ومكاتبها المسيرة، أي أن قنطرة الوصل بين المؤسسة الحزبية ومؤسسة البرلمان تتلخص في من يمثّلها داخل المؤسسة التشريعية. وهو الأمر الذي درجَت عليه كل مواد النظام الداخلي؛ فالمادة 35 تنص على أنه «يتعيّن على الفرق والمجموعات النيابية التي تختار الانتماء إلى المعارضة أن تقدم تصريحا مكتوبا يعلِن عن ذلك إلى رئاسة المجلس«، بمعنى أن بإمكان الفرق البرلمانية أن تتصرف كما تشتهي شريطة احترام نصوص القانون العام، بما في ذلك اختيارها أن تتحول من الأغلبية إلى المعارضة. يستفاد أيضا من هذا العرض، أن النظام الداخلي لمجلس النواب، يغلب عليه الإبهام في الكثير من المواطن، فإلى جانب كونه لم يضع في الحسبان الحالة التي يمكن فيها أن لا تكون الأحزاب على وِفاق مع برلمانييها (يمكن الرجوع من أجل تتبع بعض المحطات الرئيسية في الصراع بين الفرق وأحزابها داخل البرلمان لمقالة مهمة للأستاذ حسن طارق بعنوان: "الحزب و الفريق: ما يقوله الدستور!" منشورة بجريدة أخبار اليوم بتاريخ: 21 أبريل 2014)، إذ أنه يُهمّش المؤسسة الحزبية لصالح الفريق البرلماني، فإنه ترك الباب مواربا للتأويلات المتضاربة، وذلك عندما بنى للمجهول طرق تشكيل الفرق والمجموعات النيابية، والوسيلة التي يتم بها تبليغ ذلك لرئيس مجلس النواب. فهل ذلك من اختصاص البرلمانيين أم يعودون في ذلك لأحزابهم السياسية؟ لا يمكن الاجابة بسهولة عن هكذا سؤال، لأن من وجهة نظر إجمالية، نجد أنه الدستور (ف61) وقانون الأحزاب يسيران في اتجاه تكريس سلطة الأحزاب على برلمانييها ومنتخبيها، ويشجع على ربط العضو المنتخَب بمؤسسته الحزبية، لكن من وجهة نظر خاصة، نلفي أن النظام الداخلي لمجلس النواب لا يخاطب إلا النواب والنائبات والفرق والمجموعات، فإلى جانب ما أبرزناه أعلاه، نجد أن هذا النظام يقرر في مادته ال 36 ما يلي : «تضع الفرق والمجموعات لوائحها الداخلية....؛ يختار الفريق أو المجموعة مكتبه المسير بطريقة ديمقراطية تحددها لوائحها الداخلية. ويكون الرئيس ناطقا رسميا باسم فريقه أو مجموعته؛ تُودع (بضم التاء) لوائح الفرق والمجموعات وأسماء أعضاء المكتب لدرى رئيس المجلس 48 ساعة قبل افتتاح الجلسة المخصصة لذلك...؛ يُعلن رئيس المجلس عن أعضاء الفرق والمجموعات النيابية، وعن تسميتها وأسماء رؤسائها ونوابهم، ثم يأمر بنشرها في الجريدة الرسمية«. نستخلص من المادة أعلاه أن الأحزاب السياسية ممنوعة من التواصل مع شخص القانون العام (مجلس النواب) أو المشاركة في هياكله، إلا عبر بوابة النواب والفِرق والمجموعة النيابة، فالفريق البرلماني هو المختص بتحديد لائحة أعضائه، ورئيسه هو الناطق الرسمي، وهو المؤهل بالتواصل مع رئيس مجلس النواب، والمشاركة في ندوة الرؤساء، وغيرها من التدابير، وبالتالي لا مجل لمخاطبة زعيمٌ لحزبٍ سياسيٍّ لهياكل البرلمان، أو تبليغها بقرارات حزبية، ما لم يمر ذلك عبر بوابة أعضاء البرلمان. وهو ما يعود بنا إلى الاشكالية التي بدأنا بها المقالة، أي ماذا لو انتهت مدة ولاية رئيس الفريق ولم يتم التوافق بين المؤسسة الحزبية وممثليها بالبرلمان، فهل العبرة بالقانون الداخلي لمجلس النواب أم ينبغي السير وفق روح الدستور وقانون الأحزاب والمشروعية السياسية؟ يمكن أن يُسجّل علينا في هذه المقالة أننا لم نأتِ على ذكر النصوص التي تمنع الترحال السياسي (الفصل 61 من الدستور، والمادة 20 من القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية...)، والسبب في تجاهل هذا الأمر مرده إلا الاعتقاد بأن هذه القوانين ليس من شأنها المساعدة في حلحلة «واقعة الفريق الاشتراكي 2014« رغم تذرّع المكتب السياسي واللجنة الإدارية للحزب بهكذا مبرر. إن النصوص التي تمنع المنتخَب من تغيير انتمائه السياسي، لا شأن لها بحالة الخلاف بين أعضاء حزب سياسي متمسّكون بانتمائهم السياسي والأيديولوجي لذات الحزب، وبين قيادتهم السياسية التي ترى أن هؤلاء قد خالفوا توجهاتها، ليست السياسية والفكرية، وإنما التنظيمية. ففي الوقت الذي تتمسّك فيه القيادة السياسية بالقانون الداخلي الخاص بحزب الاتحاد الاشتراكي، نجد أن النواب المصممون على انتخاب رئيس فريقهم السباق يتوسّلون بالقوانين العامة، ويرفضون أن تتدخل المؤسسة الحزبية في عمل الفريق النيابي، وبالتالي فإن المجال هنا لا يتعلق بترحال سياسي أو تغيير الانتماء، وإنما المسألة متّصلة بالدمقراطية الداخلية والحكامة الحزبية. حاولنا في العرض أعلاه أن نبسط وجهات النظر المتعارضة، وأن نحلل النصوص القانونية ذات الصلة، وتَجنّبنا - ما أمكن – الانزياح وراء أي طرح، وحتى لا يطغى الجانب الأكاديمي، فإن الضرورات العلمية تفرض علينا أن نعود إلى الفرضية التي انطلقنا منها لتأكيدها أو نفييها. لقد تبين معنا أن قرار اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد الاشتراكي برفض لائحة الرئيس السابق للفريق وتكليف رئيسة جديدة له، بل ومخاطبة رئيس مجلس النواب مباشرة، هو من الناحية القانونية إجراء فاقد للشرعية ومخالف للقانون، ولا يمكن التذرع بأنه يتطابق والنظام الداخلي للحزب، لأن العبرة في مثل هذه الوقائع تكون لصالح القانون العام وليس لصالح القوانين الخاصة، وبالتالي لابد من تغيير القانون خاص (النظام الداخلي للحزب) أن يلائم القانون العام (النظام الداخلي لمجلس النواب) وفقا لمبدأ سمو القوانين، هذه من الناحية القانونية المحضة، أما من الناحية السياسية والمبدئية، فإن ما أقدم عليه أعضاء الفريق الاشتراكي من تقديمهم لائحة خاصة بهم دون التوافق مع المؤسسة الحزبية، لهو قرار مُفتقد للمشروعية - رغم احتيازه على الشرعية القانونية- إذ لا يمكن من وجهة نظر مبدئية أن يتم تعيين فريق برلماني يمثل حزبا سياسيا، بينما زعيم هذا الأخير ليس من ضمن أعضاء هذا الفريق رغم أنه عضو بمجلس النواب. كما أن من نتائج «واقعة الفريق الاشتراكي 2014« أنها سلّطت الضوء على عيب في النظام الداخلي للبرلمان، وذلك أنه يخاطب الفرق البرلمانية بمعزل عن مؤسساتها الحزبية، فضلا على أنه يَفترِض الانسجام بين الزعامة السياسية والفريق البرلماني، وهو ما يدعو إلى ضرورة تعديل هذا قانون حتى يواكب التوجه العام الرامي إلى ربط الأعضاء المنتخبون بهيئاتهم السياسية، بُغية تخليق الحياة السياسية. بوجيز العبارة يمكن القول، أنه ليس كل ما هو شرعيٌّ فهو مشروعٌ، وليس كل ماهو مشروع فهو شرعي، إذا لا بد من احتياز الشرعية والمشروعية حتى تتمكن أي مؤسسة سياسية من أداء مهمتها، وربما هذا ما دفع الرئيس السابق للفريق الاشتراكي تقديم استقالته رغم أن لائحته قانونية ولا عوار يمكن أن يطولها. فكما قال دي توكفيل «إن الناس لا تفسُد بممارسة السلطة ولا تفسُد بالخضوع للسلطة، وإنما تفسُد بممارسة سلطة غير شرعية وبالخضوع لسلطة غير شرعية«. *باحث في القانون الدستور وعلم السياسة