لو تأمل وزير الاتصال السيد مصطفى الخلفي واقع حال بعض سينمات العالم الثالث الحديثة العهد (البرازيل، المكسيك، فيتنام، إيران، الشيلي، الأرجنتين) لاتضح له أنها برزت ولمعت كسينما مضادة باعتبارها تحديا واضحا للسينما السائدة. ويرجع فضل هذا الانجاز إلى النخبة السياسية في تلك البلدان التي تعيش نهضة فكرية ووجدانية وثورات اجتماعية، حيث استعْدت سينما هوليوود على الخصوص, وسينما الغرب على العموم, أسلوبيا وإيديولوجيا بعدما استشعرت الحقائق الكارثية في مجال الفن السابع. وعلى الفور بزغت "ثورة مضادة" للتخلص من "جدار التبعية السينمائية"، عبر سياسات إجمالية وطنية بالأساس. فتحركت هذه النخبة السياسية، على وجه السرعة، بتشخيص "الوظيفة التدميرية" للسينما انطلاقا من الأسس المادية (في بعض هذه الدول)، وفي أحيان أخرى اعتمدت بقية تلك الدول على التغيير الجذري باقتلاع العلل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لبناء "المؤسسة" السينمائية بالخطوات الواقعية والضرورية لإزالة أي مصدر منازع للشرعية والانقضاض على خطة الاقزام الخسيسة لجحافل المستغربين والفضوليين وأصحاب الضمائر الميتة وكنستهم الى مكب النفايات. صوت حنكة هذه النخبة تفاعل مع الاتجاه الصحيح بتعيين مفكرين على رأس المؤسسة السينمائية، لما يمتلكونه من روافد الافكار الثقافية (ليس بالضرورة معارف سينمائية) والوعي الذي يميز بين الدعاية الخفية والمبطنة والرؤية الثاقبة للتنقيب والبحث المتواصل الدائم على "الفن" المقيت الذي يسعى الى الفتك بالفن السابع. ولف هؤلاء المفكرون حولهم، بعد تعيينهم على أهم وأخطر مؤسسة فنية، نخبة من المتخصصين والفنيين والتقنيين في الشأن السينمائي للنهوض بسينماهم الوطنية.ورفضوا الوصاية والثقافة السائدة والأفكار والمؤسسات والأنماط المعدة من "المركزية". ومن خصوصيات هؤلاء المفكرين الحفاظ على الهوية في السينما ورفض الذوبان في "المجتمع الجديد" مهما كانت إغراءاته وظروفه، لان السينما، أي سينما، يجب أن تعتمد على حب الوطن الأصل والارتباط الحقيقي به، وبتربته وماضيه. فكانت النتيجة ان تكونت تلقائيا في تلك الدول التربة الملائمة لخلق سينما محلية ببصمة ووعي جديد ورؤية خاصة وشاملة وحرصت على تصميم سينما هادفة بأهمية بالغة أضحت مصدر فخر لها. ونحن هنا نعتقد أن هذا النجاح لا يكتمل دفعة واحدة بل يتكامل وينضج تدريجيا من خلال انتقاء مدير على رأس المركز السينما المغربي من صفوة مثقفي هذا البلد، بملف شخصي يسمح بفتح صفحة جديدة في عالم السينما المغربية. بيانات ومواصفات "الاستراتيجي" القادم، التفرد بالقدرة الفائقة بكل صنوف المعرفة والخبرة لنسف مخططات من اعتدوا على هوية السينما المغربية وخلق بديل لسينما البغاء وسينما التطبيع والسينما العشائرية (12 "مخرجا" مغربيا على الاقل اضافة الى مدير المركز جلبوا افراد عائلاتهم وأقاربهم الى الاخراج او التمثيل او الانتاج لنهب صندوق الدعم)، ليتعامل مع القضايا السينمائية الكبرى على أرض الواقع، عوض الخوض في المسكنات المؤقتة التي تسعى إلى تنويم وتخدير حواس المشاهد المغربي وتضليل الرأي العام وتغريب الإنسان وتشييئه لينصرف عن الدلالة والمعنى. ويتوقف على المدير-الاستراتيجي تحديد العلاقة الادارية ومهام جميع الاطر والكوادر في اطار صياغة فلسفة واضحة تكمن في تنامي دور الاستراتيجية تمهيدا لإبراز المضامين الفكرية لقدرات الاستراتيجي وأهميتها للمؤسسة السينمائية المغربية. هذه الخطة يقصد من خلالها التصدي للمرض العضال الذي اصاب السينما المغربية واقتطاعه من الجذور، ومواجهة فوضى الفساد المالي والأخلاقي بحزم، وتشخيص عدوى المكروب الذي تفرخ في كل زوايا المركز السينمائي المغربي والقضاء عليه قبل ان يستوطن في مجموع الجسد المغربي. كما يجب عليه محاربة سرطان الدعاية الجوفاء والقيم الفردية الدونية التي تسعى لتحقيق المصالح الشخصية على حساب المصلحة العليا. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال استراتيجية متكاملة تبدأ بتحلي مدير المركز السينمائي بمبادئ الاخلاق الفاضلة التي تعود على السينما المغربية وعلى الوطن بالفائدة الاسمى. هذا المشروع يتطلب المكابرة بإصرار على صناعة القرارات وتحديد الغايات والأهداف والتحرك ضمن عناوين متباينة (ارتباط المدير بعدد أوسع من الخبراء والمتخصصين والمتوفرين على المهارات الفكرية) والإلحاح على الجانب الحسي الذي يفجر السينما بقوة. كما نرى ان ملامح وتجليات المدير المقبل ستبرهن على محدودية الفرضية التي تؤكد أن السينما لا تعكس الواقع فحسب، بل يؤمن في الفرضية المعاكسة التي تشدد على أن السينما قد تسهم في خلق وعي جديد في الصراع لتغيير الواقع وإعادة بنائه أو استبداله بواقع آخر. مميزات هذا المدير ان يرى في السينما الوطنية كتابة فعل بالواقع أكثر منها مسألة أفعال بالأحداث وتصويرها تصويرا دقيقا في كل أبعادها. ولن يتيسر ذلك إلا بالمعايير الراسخة لرسالة السينما الإبداعية، وفي صلب رسالتها الإسهام في خلق وعي جديد للتناقضات التي تغرّب الإنسان وتحوّله إلى سلعة يجري تبادلها في سوق العلاقات. ولكي تخطو السينما الوطنية خطوات ثابتة يجب عليها تخطي محدودية الفرضية التي تقول بوجود تصادم بين الفن والالتزام بالقضايا السياسية الكبرى، مثل حرية الإبداع وحق الاختلاف في الرأي والتقييم. ويحق لهذا المدير أن يخضع حرية التعبير لعملية الخلق والتفكير النقدي التأملي في إطار الصراع الإنساني المحتدم لوضع حد لقبح "الخيال المثالي" وإحباط المخططات وغايات وأهداف من تسببوا في الفقر الإبداعي والفكري وهذا ما حرص على تنفيذه عقابيل التبعية الثقافية منذ منتصف الثمانينيات. مشكلة السينما المغربية لم تكن يوما في الحريات، المشكلة هي في فَساد الذوق المغربي العام نتيجة لفساد أكبر انجرف وراءه "المخرجون" المغاربة الذين قصفونا بموجة شرسة تبنت القيم الفاسدة في أفلام الشذوذ واللواط والسحاق والدعارة. على السيد الوزير ان يختار مديرا مبدعا وخلاقا وناشطا بقدرة الادراك وبُعد النظر والتحليل والتشخيص والتأثير وحسن التخطيط الاستراتيجي لربط الغاية بالوسيلة مع الالمام بالتوجه الثقافي التاريخي الداخلي والخارجي ليتبنى الحركة السينمائية بخلفيتها الجمالية والفكرية وإخضاعها لمزاج معايير الخبرة النقدية. فالمثقفون الفرنسيون مثلهم مثل المثقفين الايطاليين انقلبوا على الوضع العام للسينما في منتصف القرن الفارط وفصلوا في خياراتهم الجمالية ومواقفهم الأخلاقية لخلق "مدارس فنية". وهي المدارس التي أعلنت الثورة على السينما التجارية العقيمة وعوضتها بصناعة تيار سينما جديدة ومختلفة من منطلق فكري وسياسي وفني وليس لغرض تجاري. ورافق هذه الموجة في الفترة الزمنية نفسها مجلات سينمائية عجت بالمقالات الفكرية للعديد من النقاد والمخرجين والمثقفين وهي الأسماء اللامعة التي ستؤسس لاحقا للانبعاث السينمائي الأكثر تماسكا ورسوخا في سماء تاريخ الفن السابع. ورغم أن تلك المدارس الجديدة لم تعمر طويلا إلا أن عدوى تأثير أفكارها انتشر بسرعة بين كل سينمات العالم ولاسيما سينما العالم الثالث حيث لا يزال ظاهرا حتى الآن. وتتميز بعض سينما العالم الثالث حاليا، كما سينما الموجة الجديدة الفرنسية أو الواقعية الايطالية، بطابع هويتها الوطنية التي تسعى إلى إلغاء الهيمنة الامبريالية عن "لغة فيلمها" للتعبير عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعن تاريخ وثقافة شعوبها. ولكي تقتطع السينما المغربية مكانا لها لابد للمدير القادم أن يرتكز في استراتيجيته على رسم الخطط بالبعد الثقافي لضمان نجاحها. ولتحقيق هذا المشروع الطموح وجب على المدير جذب النخبة الوطنية المثقفة لمواجهة المستلبين ذهنيا والبرهنة على خلق الوعي بغية تصويب سياسة الفن، الذي تحول إلى داء وبلاء، لتتشكل "مدرسة سينمائية" برسالة جمالية وفنية وفكرية واضحة تزدهر على الأساس المتين للوعي الإبداعي. هذا الكفاح الإبداعي يكون من اجل استقلال المخرج المغربي عن سموم سينما العولمة. ولكي يتشكل هذا الإبداع للذات المغربية واسترجاع فعالية السينما المغربية لابد من زعزعة بنيتها الثقافية ومؤسساتها الاجتماعية وقاعدتها الاقتصادية. ودور المثقف الوطني يتمثل في الاهتمام بالهوية الوطنية في السينما المغربية لأنها أساس المقاومة ضد فلول التبعية الثقافية التي تسطرها العولمة الإيديولوجية. ولن تنشأ أبدا سينما مغربية وطنية إلا من خلال إسهام المثقف في تحديد الإبداع الفني وقطع الطريق أمام الأنانية الفردية ومعها العولمة المستبدة لتحويل الذات الإبداعية إلى إرادة عامة. وبما أن للسينما دورا بالغ الأهمية في تحرير الإنسان المغربي كان لا بد من كشف سر لصوص السينما المغربية وتعرية "كذبتهم الأفلاطونية النبيلة" ومخطط انهيارهم الأخلاقي. فالشلل الأخلاقي الذي أصاب السينما المغربية مرتهن بمنطق الإنتاج المادي المتعولم والتدنيس المحفوف بالخطر. الاهتمام بالثقافة الوطنية في السينما المغربية ضروري بل السبيل الوحيد إلى العالمية، والسبيل الوحيد إلى العالمية وضع النبرة على نجاح التجربة محليا. ولكي يكتب لهذه التجربة أن تنجح وجب امتلاك رؤيا شاملة تبدأ بفضح الأفلام المغربية وافتقارها إلى العمق النفسي والأخلاقي وسعيها إلى إذلال الآخر، والحقد عليه.