سأحاول في هذا المبحث التركيز على بعض الأمثال الشعبية التي تقوم بدور تربوي سلبي،وتسوّق لثقافة الإحباط في المجتمع،وتصنع نماذج بشرية يائسة و فاقدة الثقة في إمكانياتها و قدراتها. تلون الواقع بألوان قاتمة، تحجب الرؤية للآفاق البعيدة، و تمنع التعلق بخيوط الأمل و الرجاء. ومن سماتها كذلك أنها تركز على العيوب، وتضخم آثارها،كما أنها تكرس التمييز و الكسل و التخاذل ومحدودية الأفق وقتل جذوة الطموح.إنها تمارس حربا نفسية ضد الإنسان ،تثبط عزائمه ،وتحرمه من لذة التجربة ومن متعة المغامرة والتحدي. وتكون نتيجتها في الغالب، تأثيرا خطيرا مزلزلا ومدمرا لكيان الإنسان، بشكل يجعله ينسحب خائبا محبطا من معترك الحياة ،ويمضي أيامه في حالة رهاب وخوف وانتظار.يصاحبه الندم ،ويمزقه القلق،ويحرمه من التمتع بصور الجمال ومن رؤية النور في صفحات الوجود. وفي هذا السياق أورد بعض الأمثال /المعاول التي تفتك بالإنسان، وتسعى إلى تدميره، و تعمل على إهانته وتحقيره، و تمنعه من ممارسة حقه الطبيعي في الحياة،بل تكرّس كل أشكال التمييز الطبقي والجنسي والنوعي،وتعيد إنتاج القيم الجاهلية وأنماط التفكير المتخلفة،وتقدمها في شكل نصائح مضلّلة و مشبوهة ،يتوارثها جيل عن جيل بسذاجة مفرطة. 1- العين ما تعْلا على الحاجْب 2- مُدْ رجلك على قدْ لحافك 3- المرا بْلا وْلاد بحالْ الخيمة بلا وْتاد 4- البنتْ إما لرجلها و إما لقبرها 5- بنْتك ما تعلمها حْروف، وما تسكنها غْروف هذه العينة من الأمثال الشعبية المتجاوزة أخلاقيا ودينيا وإنسانيا ،ما تزال رائجة متداولة في المجتمع،وما تزال تمارس سلطتها التوجيهية على عقول الناس.تحدد تمثلاتهم ،وتصنع قيمهم،وتشكل صورهم الذهنية، و تؤثر على نظرتهم إلى المكونات البشرية التي يتشكل منها نسيج المجتمع.وقراءتنا للحمولة الفلسفية لهذه الأمثال تعرّي وتكشف الخلفية العنصرية و الطبقية التي كانت وراء صياغتها في شكل إبداعات شعبية شفاهية مستفزة، تحمل في ثناياها فكرا متطرفا ومشروعا إقصائيا،يشيع البؤس واليأس والإحباط والخوف في النفوس،ويزكي الظلم و التخلف والميز والتسلط في الحياة.ولاشك في أن كل متأثر متشبع بالحمولة الفكرية لهذه الأمثال،إنما هو إنسان شاذ متطرف بهيمي،ليس له احترام لإنسانية الإنسان،ولا تقدير له لتعاليم الأديان.وإن تداول هذه الأمثال وتوظيفها في الخطاب اليومي ، يكشف عن خلل عميق في البنية العقلية الاجتماعية،ويشير إلى وجود تشويه خطير في منظومة القيم السائدة. أ- أريد أن يتمعن القارئ مليا هذا المثل الشعبي، الذي يتم تداوله على نطاق واسع( العين ما تعلا على الحاجب).فلا شك أن منطوقه اللفظي و حمولته الدلالية يكشفان أولا عن خلل في التصور. فهل كل من قُدّر له أن يكون يوماً هو الأعلى، يكون دائما هو الأسمى؟ أليست العين قد شرُف قدرها وعظُمت مكانتها ،ومع ذلك علاها الحاجب خادماً لها وحامياً لحماها؟ ومن ناحية أخرى،إننا نلمس في هذا المثل الشعبي ذبذبات نظرة طبقية متعالية متعصبة.تدعو ضمنيا إلى الرضا و الرضوخ و قبول كل وضع باعتباره قدرا نازلا، ولا اعتراض على القدر.فلا مجال للاحتجاج أو المطالبة بالتغيير أو ممارسة فعل الاستنكار، مهما كانت الأحوال و الظروف .فالحكم قد صدر، والأمر قد حُسم، فليس على المرء سوى الانغماس في بحر الاستسلام الأبدي،وترديد تراتيل الصبر و الشكر و أنشودة السمع و الطاعة.فالجميع قد اتخذ موقعه المناسب ،والكل قد حصل على نصيبه المقدر له،ورداء الحياة قد نُسجت خيوطه، وفُصّلت أطرافه، وحُدّدت معالمه القارة و الثابتة،والتي لا تقبل المراجعة أو المغايرة.فلا تسْعَ أيها الإنسان، ولا تتعبْ، ولا تحلم، ولا تبْرحْ مكانك، و لا تتمرد على قدرك،ولا تتبع أهواءك، حتى لا تضلَّ فتشقى.فأي قيمة هذه التي يكرسها هذا المثل الشعبي؟و أي نموذج إنساني يمكن أن تنتجه وتصنعه هذه القيمة؟و أي لون تكتسيه الحياة إذا سادت هذه الثقافة المحبطة لكل طموح و المعيقة لكل تغيير؟ إنه مما لاشك فيه أننا نستثمر سموما فكرية، نلوث بها عقولنا، ونوجه بها سلوكنا، و نربي عليها أبناءنا، و نصوغ بواسطتها نظرتنا للحياة.نقدم الكرامة و كل الحقوق الإنسانية قربانا لصنم أجوف اسمه :المثل الشعبي.نقدسه دون ريب، ونتلقفه دون وعي،ونتداوله دون إدراك لآثاره الخلقية و النفسية المدمرة و الناسفة لكل المعاني و القيم الحضارية، التي جاهدت الإنسانية كثيرا من أجل اكتسابها عبر تاريخها الطويل. ب- ويأتي المثل الموالي ليؤكد على تلك المعاني المستفزة السابقة،وليمارس اضطهاده الشرس لكل من سوّلت له نفسه أن يسلك معارج الطموح. نجده يوجه أوامره العسكرية بنبرة إرهابية تحقيرية،يريد من خلالها أن يصادر من الإنسان تطلعاته وكل أحلامه،و أن يعيق مشاريعه وكل آماله .فعبارة(مدْ رجلك على قدْ لحافك) شعار واضح وصريح لثقافة بائسة تسوّق للإحباط، وتدفع الفرد و الجماعة إلى قتل فورة الإرادة، وطمس ينبوع الحيوية، ومحاربة كل رغبة في التغيير.فالطموح صار ذنبا و جريمة ،والتطلع إلى الآفاق ردة وزندقة،والرغبة في تطوير الذات وتفيق الملكات طوباوية حالمة .فلذلك وجب على المرء - حسب هذه الثقافة - أن يكون راضيا قنوعا،محدود الرؤية،مسدود الأفق.فلا يُسْمح لأرجله بأن تتمرد على لحافه.فالحدود قد رسمت،والألغام قد زرعت ،و الخنادق قد حفرت،ولا مجال للطمع في توسيع منطقة نفوذ الأحلام.فهناك أهل القمم وأصحاب النعم ،من يملكون خرائط الفرص،و من يجوز لهم توسيع نفوذهم بلا موانع ،واجتياز حدودهم بلا رخصة أو جواز مرور.أولئك يقال لهم:امتلك وتنعّم وارتق،واقتنص ما شئت من الفرص و سابق ،ومد رجلك،وتمرد على لحافك.فهناك متسع لك ولأحلامك. إن هذا المثل الشعبي يشيع في النفوس آفة العجز، ويكرس ثقافة الكفاف ، ويربي الأجيال على التأني في المسير، ويحذرهم من التجرؤ على ارتكاب "كبيرة الطموح"، التي لا يكفرها سوى الانسحاب والاستسلام و التراجع إلى المواقع الخلفية. ج- في النموذج الثالث (المرا بْلا وْلاد بحالْ الخيمة بلا وْتاد) ينفذ المثل الشعبي أشرس هجماته،ويرفع سوط رهبته، ويوجه أقوى ضرباته إلى كيان تعس حطمته الأيام ،وإلى قلب جريح غدرت به الأماني و الأحلام، يضرب كيان امرأة استبد بها اليأس و الحرمان، فملّت الانتظار وملّها الانتظار، و فقدت ما بقي لها من رجاء و آمال. يأتي المثل الشعبي ليزيدها ألما وفتكا وتحطيما. يحمل إليها رسالة ملغومة،لتنفجر في قلبها بركانا مدويا يحدث في أعماقها القلق و التمزق وعدم الاطمئنان على الزمن الآتي.يهديها بشرى سامة، تلوّث ما بقي لها من حيّز في هذا الوجود:الإعصار قادم، وخيمتك لا محالة مستهدفة.فلا أوتاد ولا أولاد ولا أحفاد.ليس لك جذر يحميك، ولا ظل يؤويك، ولا سواعد تمنع عنك عاديات الزمان.فشبح المجهول مشتاق لرؤيتك،وأظفار الدهر تشحذ لنهش صورتك...تلك هي المعاني الجارحة التي يحملها هذا الخطاب المدمر.وليتصورْ كل واحد وقْع هذه المعاني الصادمة، و أثر هذا الزلزال على كيان متصدع فاقد لطعم الحياة .ماذا عساه أن يفعل؟ وكم يستطيع أن يتحمل ويقاوم؟ د- أما المثلان الرابع و الخامس فينتظمان ضمن ثقافة التمييز التي تكرس تلك النظرة الدونية إلى المرأة.فلا ترى في هذا الكائن البشري الضعيف سوى وسيلة معدة للإشباع الجنسي و أرضا صالحة للحرث والنسل ،وورشة مهيأة للإنتاج.فهذا النوع من الأمثال الشعبية تركة منحطة لثقافة متخلفة أهانت المرأة كثيرا،وارتكبت في حقها جرائم تاريخية لا تنسى، وعاملتها بازدراء شديد،وسلبت منها صفتها البشرية و حقوقها الإنسانية.هذه الأمثال الشعبية تروّج لصورة سلبية عن المرأة،صورة مستمدة من واقع ثقافي بدائي متجاوز.هذه الصورة نتاج ثقافة ذكورية متسلطة متحكمة،امتهنت المرأة واستعملتها متاعا وسلعة وجارية.ومع الأسف الشديد،فقد ظلت رواسب هذا الإرث القيمي والإجتماعي المنحط راسخة في بعض العقول المتعفنة،معششة في الجينات، و اكنة في الخلايا، وثاوية في طبقات الفكر.ما تزال تمارس حضورها الاجتماعي ،وتعلن عن وجودها في البنية الذهنية وفي العلاقات الاجتماعية. فالحمولة الدلالية لهذه الأمثال الشعبية سلاح اجتماعي فتاك ومدمر،يكشف عن درجة قصوى في الميز الجنسي بين المرأة و الرجل.ويدل على خلفية عدوانية استغلالية في النظرة إلى الفتاة وفي التعامل مع المرأة بشكل عام. ف "البنتْ إما لرجلها و إما لقبرها" و "بنْتك ما تعلمها حْروف، وما تسكنها غْروف" . هذان المثلان اختزال لثقافة عصور بأكملها،وترجمة صريحة وواضحة للعقل المغربي البدائي الذي ينتمي لعصور التخلف و التحجر،حيث كانت المرأة محاصرة بين قبرين لا ثالث لهما ؛إما قبر الحياة أو قبر الممات.محرومة من الانخراط في المجتمع كعنصر فاعل مؤثر منتج، فلا دور ولا وظيفة لها سوى المساهمة في التناسل والتكاثر و خدمة الرجل. وقد كانت هذه الممارسات الظالمة المتوارثة مبررة ومقبولة في العصور المتحجرة،فحماية الشرف و تجنب العار وحفظ النسل أثقال قيمية وموجهات اجتماعية حقيقية، تحكمت في الذهنية الشعبية و في العلاقات الإنسانية.وقد شكلت المرأة البؤرة التي اتجهت إليها الأنظار ،وارتبط بها مصير الأسرة وسمعتها. ولذلك تغلق الأبواب و النوافذ،وتحرس الممرات والمسالك،وتوضع الفتاة في غياهب الغرف والمنازل،وتحرم نعمة التعليم ونور الحياة، في انتظار أولى الطرقات أو أولى الصفقات.ليخرج هذا الكائن البشري/البضاعة/الأرض الصالحة للزراعة، في لفافته البيضاء،إلى معتقله الجديد،في رحلة مأساوية إلى قبره الأول،حيث يعيد إنتاج نفس التراجيديا،ويساهم بدوره في صناعة بضائع بشرية أخرى لصفقات لا تنتهي.