أتذكر رواية "دون كيخوتي دي لا مانتشا" للأديب الإسباني الكبير "ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا" أو كما يسميها العرب "دون كيشوت دي لامانتشا"، وتدور هذه الرواية الرائعة حول شخصية رجل اسمه "ألونسو كيخانو" ذو الخمسين ربيعا والمقيم في قرية "دي لامانتشا" والمولع بالقراءة والمتأثر بها حتى بات يصدق كل ما يكتب في الكتب وفقد عقله من قلة النوم والطعام وكثرة القراءة. فقرر المدعو "ألونسو كيخانو" ترك منزله وتقاليده ليتحول إلى فارس شهم يبحث عن المغامرات بسبب تأثره بقصص الفرسان الرحالين وأخذ يتجول عبر البلاد حاملًا درعًا قديمة ومرتديًا خوذة بالية مع حصانه الضعيف "روسينانتي" حتى أصبح يحمل لقب "دون كيشوت دي لا مانتشا"، ووُصف ب "فارس الظل الحزين". وبمساعدة خياله الفياض كان يحول كل العالم الحقيقي المحيط به، فهو يغير طريقته في الحديث ويتبنى عبارات قديمة بما كان يتناسب مع عصر الفرسان. فيما لعبت الأشخاص والأماكن المعروفة دورًا هي الأخرى بظهورها أمام عينيه ميدانًا خياليًا يحتاج إليه للقيام بمغامراته، وأقنع جاره البسيط "سانشو بانثا" بمرافقته ليكون حاملًا للدرع ومساعدًا له مقابل تعيينه حاكمًا على جزيرة وبدوره يصدقه "سانشو" لسذاجته. كما يحول "دون كيشوت" بمغامراته الفتاة القروية جارته إلى "دولثينيا"، السيدة النبيلة لتكون موضع إعجابه وحبه عن بعد دون علمها. والملفت في هذا كله هي المعارك التي كان يخوضها "دون كيشوت" مع "الطواحين" على أنها "جنود العدو" التي يواجهها بشراسة أو ما سميت ب"المعركة الأخيرة"، وهذا ما أبدعه الفنان الفرنسي الكبير "جاك بريل" في أغنيته المشهورة "Don Quichotte, l`Homme de la Mancha" وتمثيله دور "دون كيشوت" الرهيب وكأنها ملحمة من الملاحم قدمها في مسرحيته الشهيرة Tout le Monde Est Don Quichotte في دار الأوبرا ببروكسيل سنة 1968. مناسبة استحضار هذه الرواية الرائعة هي المعارك التي يعيشها المشهد السياسي المغربي كما لو أنها معارك طواحين مختلفة و"دونكيشيطيون" متعددون بالنظر إلى التفنن في إبداع المصطلحات السياسية التي تخرج عن النسق الأكاديمي إلى نسق سوقي وكأنها معركة تحرير للوطن بالفعل وبها سيتحقق الانتقال الديمقراطي الذي ننشده. لا بد وأن نشير أن لكل مشروع مجتمعي في المشهد السياسي له نظرة معينة عن منهج الإصلاح في المغرب لكن الذي يجب التأكيد عليه هو مدى استيعابنا لأدوارنا الحقيقية في هذا المشهد بعيدا عن التأثر بالتجارب الأخرى ومحاولة استنساخها وتصديرها إلى المغرب. شخصية "دونكيشوت" فقدت عقلها وأصيبت بالهوس بكثرة قراءتها للقصص وما نتج عنها هذه الحالة الغريبة في صناعة معارك وهمية بعيدة عن الواقع الحقيقي للمجتمع. طريقة تدبير المعارك السياسية بعيدا عن لغة الاتهامات والتبعية والأجندات قد تجعلنا نفكر دائما أن الوطن هو الخاسر الأكبر من لعب دور "دونكيشوت" الرهيب، فلا نحن نحتاج إلى التأثر بهذيانه ولا الوطن محتاج إلى خوض معارك مع "الطواحين" على أنهم العدو الحقيقي له. لا بد أن نعي تماما أن المغرب محتاج إلى أبنائه وطاقاته وتياراته من أجل البناء والنقد البناء وعدم إيقاف عجلة الإصلاح والدفاع عن الكرامة التي نتفق عليها جميعا وحقوق الإنسان على أساس توافقي في نسبيتها والعدالة الاجتماعية التي يصبو إليها القاصي والداني وأن يقوي بعضنا الآخر بالقيم المجتمعية الأصيلة وبالممارسة السياسية النظيفة لأن ذلك في مصلحتنا جميعا. فالفعل الإجتماعي يحتاج إلى مزيد من الإنتاج والإنجازات العملية والمعارك الحقيقية التي بها يكبر وطننا، وعبرها يكبر أبناءها وبهؤلاء الأبناء سنفتخر طالما أنهم في الاتجاه الصحيح بدل لعبة "طوم وجيري" التي عكرت صفو تخليق الحياة السياسية، حان الآن الوقت للعمل قدما نحو المشروع المجتمعي الحقيقي الذي يصنعه الجميع كل حسب موقعه دون مصلحة ضيقة تعلو على الوطن، فالوطن فوق الجميع وأبناءه هم صانعوه، فقد يكون "دونكيشوت" قد "حرك من أوربا إلى المغرب في هجرة غير شرعية بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية دون أن ننتبه.