من الدعاوى التي لا يتوانى البعض في تردادها قولهم أن التصوف ينمي روح الكسل والخمول، وهي الدعوى التي صدرت من قبل عن بعض من الذين كانوا جندوا أقلامهم لمحاربة الإسلام والمسلمين، والتي تصدر اليوم، ويا للمفارقة، عن بعض ممن يعتبرون أنفسهم من المنافحين عن الدين الحنيف. ألم نقرأ عند المستشرقين غير المنصفين ادعائهم أن الإسلام دين يكرس السلبية لأن أهله يردون كل شيء للقضاء والقدر؟ ألم يقل برنارد لويس (Bernard Lewis) وماكسيم رودنسون (Maxime Rodinson) وغيرهما أن سبب تأخر بلاد الإسلام هو عقيدتنا السمحاء؟ ومن غريب المفارقات أن هؤلاء المستشرقين يعتبرون أن الإسلام جاء بشريعة، ينظرون لها النظرة الغربية المعروفة، جاء بشريعة على شكل قواعد جافة للأمر والنهي، خالية من ذلك البعد الروحي الذي هو سرها وكنهها، والذي هو أساسها وروحها، والذي عليه تنبني مقاصدها. المفارقة المشار لها تأتي من أن أصحاب دعاوي الخمول يقولون أيضا بهذا من منطلق فهمهم للشريعة الغراء، هذا الفهم الذي لا يسع المجال للخوض فيه، لأن الهدف من هذه المقالة هو الرجوع إلى الدعوى سالفة الذكر. لماذا لا يتوانى بعض من أبناء ملتنا إذن في ركوب نفس القطار، والاحتجاج بنفس الدعاوى الباطلة؟ ثم لماذا لم يستطع الفكر الذي ترعرعت في إطاره هذه الدعاوى أن يؤسس لنظرة مجتمعية جديدة تزود المسلمين بالسلاح الفكري والنظري وبالوسائل العلمية لركوب قطار النمو الذي ركبته الأمم منذ ما يزيد على قرنين من الزمن ؟ وفضلا عن هذا، لماذا نرى من يدعون اليوم الرغبة في الإصلاح يجترون نفس المقولات التي تم تداولها بين علماء الإسلام منذ قرون؟ لماذا لم يستطيعوا النظر إلى الواقع نظرة المتفحص، العالم، الراغب فعلا في الإصلاح، واكتفوا باجترار النقاش الذي دار قبل قرون خلت إثر ما كتبه ابن تيمية ومن صار على نهجه كابن القيم وغيره. إن من يعتبرون اليوم ابن تيمية مرجعا ومن يتخذونه شيخا، رغم قولهم بعدم ضرورة صحبة الشيخ، يجهلون أنه شرح رسالة القشيري في كتابه الاستقامة وشرح فتوح الغيب لمولاي عبد القادر الجيلالي في الفتاوى، كما أن ابن القيم شرح منازل السائرين للهروي في كتابه مدارج السالكين. إن هؤلاء الرجال وآخرون من أمثال أبي طالب المكي والسهروردي وحجة الإسلام الإمام الغزالي وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، أبعد الناس عن الخمول والكسل والتواكل. وإنه لمن الظلم للتاريخ والفكر نعت رجال ألهموا من يعتبرهم هؤلاء المنتقدون مرجعية لهم بالكسل، واتهام من صار على نهجهم بالخمول. لقد كان لابن تيمية وابن القيم وغيرهما موقف من بعض من مدعي التصوف، أما مع رجاله الأفذاذ فقد جمعتهم المناظرات العلمية الرصينة، على خلفية الاحترام المتبادل. كان نقاشهم ينطلق من الأصول ويعرج على الفروع ويتوخى خدمة الإسلام والمسلمين من منطلق الغيرة على دينهم. وإذا كان من الإجحاف القول بأن هذه الخلفية أصبحت غائبة اليوم بالتمام، فإنه من اللازم التنبيه إلى أن مقاربة من يكيلون هذه الاتهامات أصبحت سطحية إلى حد بعيد، ومصبوغة بمنظور هو إلى الايدولوجيا أقرب منه للعلم، وبأبعاد سياسوية أكثر منها دينية. ويكفى لبطلان هذه الدعوى التذكير ببعض خصائص التجربة الصوفية، وإن كنا مللنا من هذا، وإن كنا نجزم أن هذا أصبح معروفا عند الخاص والعام، لكننا مجبرون على التذكير به لوضع النقط على الحروف، ولتنوير الرأي العام الذي قد تكون بعض مكوناته غير ملمة بالأبعاد التاريخية لهذا الذي كان اختلافا بين العلماء، فأصبح مجالا للقذف الرخيص، دون تبين، وللدعاوى الباطلة. إن التصوف، وهو مقام الإحسان في الدين الحنيف كان موضوع كتابات كثيرة وأبدع رجاله الأعلام فكرا أثرى الثقافة الإسلامية، وزودها بالبعد الروحي، أي ذلك البعد الذي يدعى المستشرقون سالفو الذكر أن الإسلام لا يتوفر عليه، والذي هو في الواقع مناط قوته. والتربية الصوفية اليوم خير دليل على أن هذا المنهج التربوي المحمدي لا زال يحث، كما كان بالأمس، على العمل الدؤوب من أجل صالح الإنسان في مآله، أي أخذا بالاعتبار لضرورة صلاح حياته الدنيا التي هي مطيته للآخرة، ومن أجل الاستعداد لهذه الأخيرة، بتطهير القلب كي يكون سليما، ويلقى الله تعالى خاضعا لجلاله، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ويصبح العمل الدنيوي مفيدا للإنسان بقدر دخوله في هذا الإطار، كما يصير هذا العمل نافعا إذا اندرج في هذا المسار، ويكون الأمر كذلك متى تتلمذ على شيخ عارف بالله يلقنه علما لا يمكن تعلمه من الكتب، لكونه نورا ربانيا يقذفه الله تعالى في قلب من داوم على ذكره بمنهج منظم، وبأعداد يحددها الشيخ المربي. والطريقة القادرية البودشيشية تمثل اليوم إطارا لإحياء هذا التعليم حيث يسهر شيخنا سيدي حمزة بن العباس على تأطير كل مريديه ومتابعة سيرهم عن كثب وحثهم على الإكثار من ذكر الله تعالى، مما يلزمهم بأذكار يومية، فردية وجماعية، هذا الالتزام اليومي الذي يجعل الصوفي اليوم أكثر الناس حرصا على تنظيم وقته وعدم إضاعته فيما لا يفيد. وذكر الله تعالى يجعل الصوفي أكثر نفعا للآخرين كما يبعده عن المزايدات الكلامية والشعارات، لأنه يسير على نهج الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين، بالسعي لإعطاء المثال بالعمل قبل الكلام. ومن جهة أخرى، فان دراسة المكونات الاجتماعية للطريقة كفيلة بأن تؤكد أن التصوف، على عكس هذا الادعاء، منشط اقتصادي ومحفز على العمل، لأن الذاكر يصبح مراقبا لله تعالى في كل أحواله، مما يجعله يتجنب الغش والتدليس ويعمل جاهدا على إتقان كل ما يقوم به. ولهذا نجد الذاكرين اليوم يعطون المثال في القطاعات التي يعملون بها، بل ويبدعون فيها أكثر من غيرهم، لأن سرائرهم تطهرت بالنور الإلهي، ولأن سلوكهم محكوم بالهدي المحمدي. والمقاربة السوسيولوجية للطريقة القادرية البودشيشية، التي تمثل اليوم النموذج الحي للتربية الصوفية، تؤكد انخراط الصوفية في شؤون المجتمع، حيث تجد بين الذاكرين مهندسين وأطباء ومحامين وإداريين وأساتذة وتقنيين وعمالا وفلاحين وطلبة وغير ذلك من الشرائح الاجتماعية. وعلى عكس الهيئات التي تتلقى تمويلات من جهات مختلفة، فإن تمويل أنشطة الطريقة يتم من طرف هؤلاء الذاكرين، الذين يهبون الغالي والرخيص لخدمة الطريق لله تعالى ولمساعدة المعوزين، سواء من المنتمين للطريقة أو من غيرهم، أسوة بسيدنا محمد عليه أزكى الصلاة والسلام وبالصحابة الكرام وبصالحي هذه الأمة. إذا كان الخمول والكسل هو ما يقوم به هؤلاء الذاكرون، رجالا ونساء، فما هو العمل النافع يا ترى؟ إن الحاجة في مغربنا اليوم ليست لمزايدات كلامية لا طائل من ورائها، كما أن خدمة جهة معينة لدعوتها لا تبرر اللجوء إلى أساليب ومناهج متقادمة من قبيل الاتهامات والكذب المجاني. فالدفاع عن فكرة أو منهج معين يقتضي، إذا كان المدافع صادقا مع نفسه ومع ربه ومع الناس أجمعين، أن يشرح موقفه ويبينه للناس، لا أن يريد إخفاء الأهداف الفئوية الضيقة التي يسعى لتحقيقها بشعارات براقة أكل عليها الدهر وشرب.