حتى وهو يرحل سنة 1977 عن عمر ال 88.. إلا أن وجهه المضحك بقي يحتل الكثير من الشاشات الصغيرة والكبيرة لعقود متتالية. وحتى وإن تطوّرت السينما لتحصل على لسان تنطق به..فأفلامه الصامتة الأولى لا زالت شاهدة على إبداع قد لا ينطق به لسان. وحتى وإن غزت الألوان العالم.. فبساطة "الأبيض والأسود" لا زالت تحقق لكثير من أفلامه أكبر المشاهدات. ببساطة لأنه تشارلي شابلن، أيقونة الكوميديا في كل العصور، والرجل الذي سخر من كل شيء، فتحوّلت جوانب متعددة من حياته، إلى مادة ساخرة حققت بها جرائد معينة أكبر المبيعات. لم يتزوج تشارلي بالكوميديا فقط، ولكنه تزوج أربع مرات في حياته، ورافقته الكثير من الإشاعات والفضائح، وأدى تعويضاً جزافياً يُعتبر لحد اللحظة أكبر تعويض حكمت به محكمة أمريكية على الإطلاق، هو الكوميدي الصامت الذي استطاع أن يجمع ببراعة بين الإخراج والتمثيل والإنتاج، وهو رجل السلام الذي حُرّض ضده القضاء الأمريكي لطرده بدعوى أنه كان شيوعياً. في زقاق فقير بالعاصمة الإنجليزية لندن، وُلد تشارلي في 16 أبريل من سنة 1889، عانى من فراق والديه منذ سن الثالثة، وبقي لسنوات يتدحرج بين منزل والده ومنزل والدته، حتى توفي الأول عندما بلغ تشارلي ربيعه الثالث عشر، وانتقلت الثانية إلى المستشفى، ليجد نفسه حبيس الملاجئ الفقيرة ودور الخيرية، حتى تعرفت عليه مجموعة شهيرة للمسرح قادها الفنان فريد كارنو، جعلت من تشارلي النجم الأكثر شهرة في المدينة، حتى وهو لم يتجاوز سنه ال18. في ظرف قصير للغاية، استطاع تشارلي أن يحفر له اسماً بارزاً في صناعة الترفيه الأمريكية، ففي جولة قادته مع مجموعته إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، لمحه أحد منتجي شركة "كيستون" لصناعة الأفلام، التي كانت تعتبر آنذاك من أقوى الشركات الأمريكية، واعتبر هذا المنتج أن تشارلي يصلح أن يكون وجهاً معوّضاً لأحد النجوم المتقاعدين في الشركة، هكذا ورغم أن فيلمه الأولى "لقمة عيش" لم يكن ناجحاً، إلا أن سنة 1914، عرفت انطلاقة الشاب البريطاني نحو المجد، أي سنة واحدة بعد قدومه إلى الولاياتالمتحدة. إن عاد الفضل لوالدته في إعالته قبل أن يقعدها المرض، فالفضل كذلك في شهرة تشارلي يعود لامرأة أخرى اسمها مابل نورماند، أنجزت معه سلسلة كوميدية في تلك السنة، ووثقت فيه بأن مكّنته من إخراج فيلمه الأول، ليفرض اسمه في عالم الترفيه، وينتقل إلى شركة أخرى أتاحت له التمثيل والإخراج بالشخصية التي يريد "شارلو الصعلوك"، ومنها إلى شركة جديدة براتب سنوي وصل إلى حوالي 670 ألف دولار، ليصير سنة 1917 من بين أغنى الناس في العالم. ولأن طموحه لم يتوقف، فقد افتتح تشارلي سنة 1918 استوديوه الخاص، وعوض التركيز على إخراج فيلم كل شهر أو ثلاث أشهر كما كان يقوم سابقاً، فقد صار يأخذ كل وقته في الإخراج، لذلك قدم أفلاما متميزة لا زالت لحد الآن تبهر عشاق السينما، من قبيل "الطفل" "حمى الذهب" "حياة كلب" "شارلو الجندي" "الدكتاتور"... ورغم إدخال تقنية النطق في الأفلام الأمريكية، فقد استمر تشارلي في توجهه الصامت، بل إنه أنجز فيلم صامت هو "أضواء المدينة" ردّ به على "هولييود" التي كانت تعتقد أن عصره انتهى بسرعة، فقد كان تشارلي السينمائي الأول بالولاياتالمتحدة في تلك الفترة، وحقق نجاحات فنية متعددة، قلّل من إشراقاتها، فشله في علاقاته العاطفية، وفضائحه التي شكّلت مادة دسمة للصحف والمجلات، رغم أنه حاول الاستعانة بالصوت في أفلامه بعد ذلك لمواجهة نيران الانتقادات الكثيرة. فقد تزوج في البداية بشكل سري من ممثلة من أجل اتقاء فضيحة حملها منه بشكل غير قانوني، إلا أنه فارقها مباشرة بعد وفاة طفلهما، ثم تزوج مرة ثانية من ممثلة أخرى بعدما خاف من السجن بسبب حملها منه وهي لم تتجاوز 16 سنة، وقام بتطليقها هي الأخرى، ودفع لأجل ذلك 600 الف دولار كتعويض يعتبر لحد الآن هو الأعلى في تاريخ المحاكم الأمريكية، وعاد للزواج مرة ثالثة بالممثلة الأمريكية باوليت كودارن، طلّقها بعد سنوات من زواج اعتبره فاشلاً، ثم تورّط مرة أخرى في فضيحة أخلاقية مع ممثلة حكم القاضي لصالحها فيما يخص تأكيد أبوة تشارلي لابنها، فكان زواجه الرابع مع أونا أنويل بعدما وصل إلى سن ال54 هو الناجح، وأنجب معها ثمانية أبناء. حياته العاطفية غير المستقرة كانت وبالاً على حياته المهنية، فبعد أن تحول إلى ظاهرة ثقافية بالولاياتالمتحدة، واستعمرت أفلامه شبابيك التذاكر، وأثّر لباسه حتى رجال الأعمال، بدأت أسهمه تتراجع تحت تأثير ضغط الصحافة، إلا أن ما زاد من عزلته، هو اتهامه بالموالاة للشيوعية خاصة مع فيلم "السيد فيردو" سنة 1947، الذي رأته الصحافة تهجما على قيم الدولة، ليؤكد حسبها اتجاهاته الاشتراكية التي ظهرت في فيلم سابق له هو "الأزمنة المعاصرة" انتقد من خلاله بشكل واضح النمط الرأسمالي في الإنتاج، رغم تأكيداته المتكررة أنه يفكر في السلام فقط بين القطبين، ولا علاقة له بأي إيديولوجية. دعاوى طرد تشارلي من الولايات المتحدى تكررت مع فيلمه "تحت الأضواء" الذي قاطعته دور العرض الأمريكية سنة 1952، ليقرر تشارلي الخروج نهائياً من هذا البلد والانتقال إلى أوربا التي حاول فيها العودة إلى سابق عهده، إلا أن الفيلمين اللذين أخرجهما بها، لم يحققا أي نجاح يذكر، وبقي هناك حتى وفاته في سويسرا سنة 1977 عن 88 سنة، وحتى وهو يرحل عن الحياة، لم تتخلّ المصاعب عن اللحاق به، فقد حاول لصان سرقة نعشه وبيعه، إلا أن الشرطة تمكنت من توقيفها. نادراً ما عرفت السينما العالمية مُبدعاً يجمع بين الكتابة وتأليف الموسيقى والتمثيل والتصوير والإخراج والإنتاج، لذلك كان تشارلي ذلك العبقري الذي جادت به عوالم السينما الجادة، واليوم، بعد قرابة 37 سنة على رحيله، لا زال تشارلي حياً في أعماله الفنية التي تصل إلى 86 فيلما سينمائياً، فبشاربه القصير، قبعته السوداء، حاجبيه السوداوين، وحركاته المسرعة، لا زال الرجل يحكي جزءاً من تاريخ السينما الساخرة، ومن إبداع كوميدي لم يكن يحتاج يوماً لأي أنواع الثرثرة.