ثمة نوعان من النهاية في كل مسار سياسي، الأول يتصف بعناصر تُحيل على الأسف، والثاني على التندر، وللأسف ثمة الكثير مما يُحيل على هذا النوع الأخير، في ختام السيرة السياسية والحزبية لوزير التشغيل السابق، ورئيس مجلس النواب حاليا مصطفى المنصوري، حيثُ تسنى عقب، فصول تباري مُمعنة في "الفودفيل" لخصمه الطارئ على التَّحَزُّب "صلاح الدين مزوار" أن يُطيح به بضربة قاضية، عبر مُختلف حلبات المُعتركات الحزبية والقضائية والإعلامية، التي تواجها فيها: بدءا بمُبادرة "الحركة التصحيحية" التي تزعمها مزوار في وسط قياديي حزب التجمع، والتراشق الإعلامي، الذي أفضى لأول مرة في تاريخ البرلمان المغربي، إلى مُقاضاة رئيس المؤسسة التشريعية، وأخيرا، وليس آخرا بكل تأكيد، الإطاحة بالرجل – أي المنصوري – من على رأس قيادة أحد أقدم الأحزاب الإدارية في المغرب، عقب اجتماع مجلسه الوطني على نحو طارئ، والبقية ما زالت حابلة، لأن الهزيمة لا تنتهي في مثل هكذا تباري سياسي، على الطريقة المغربية، إلاَّ بقطف رأس الرجل وإشهاره على الملأ، عظة لمن ما زال بحاجة للاتعاظ! لنتساءل: لماذا كل هذه الشراسة، في التنكيل برجل سياسة مخزني حتى النخاع؟ ألم يتوصل ببرقية تهنئة، من الملك غداة "انتخابه" رئيسا لحزب التجمع الوطني للأحرار؟ أليس الرجل سليل عائلة المنصوري الإقطاعية في الشمال، واثنين من إخوته من كبار أصحاب الرتب العسكرية (أحدهما جنرال) يخدمان القصر منذ فترة طويلة؟ فكيف يا تُرى سيق الرجل إلى نطع المقصلة السياسية، بعدما جُرجِر في أرضية المشهد السياسي والقضائي والإعلامي؟ سيكون من قبيل استسخاف العقول، تجاهل ما هو باد أمام الأكمة وليس وراءها! يجدر التذكير أن مصطفى المنصوري ليس الوحيد ولن يكون الأخير، الذي واجه هكذا "جحود" من دار المخزن وأهلها، لنتذكر، مثلا، أن "أوشن" (الذئب بالأمازيغية) أحرضان واجه نفس الموقف، منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حينما اختلف مع الحسن الثاني، في أحد تدابيره السياسية، فكان رد الفعل أسرع: قاد محمد لعنصر "ربيب" السياسة الحزبية ومسار الحياة المهنية، في حضن أحرضان، حركة "تصحيحية" ضد عرابه - أي أحرضان - وأخذ منه زمام قيادة حزب "الحركة الشعبية" واضطر أحرضان إلى خلق حزب آخر بنفس الإسم تقريبا (الحركة الوطنية الشعبية) ذلك لأن المحجوبي أحرضان، الذي يكاد لا يبزه غيره من القياديين الحزبيين، في "فهم" العيش بين تضاريس رَحِم السياسة المخزنية، كان مُزودا بما يكفي من تَفَس وجَلَد، لمواجهة إكراهات التقلبات "البيولوجية" للعيش في الرحم المذكورة. جوابا على السؤال المطروح قبل قليل: إن مصطفى المنصوري، لم يستوعب كفاية، شروط المُمارسة الحزبية، كما استثبت عقب سنة 2006، تاريخ خروج أحد خُدام القصر، ونعني به فؤاد علي الهمة، إلى "حظيرة" المشهد الحزبي، حيثُ وضع مسألة تقديم الدعم لحركة صديق الملك، في درجة ما بعد الأولوية، وفي هذا السياق يُمكن فهم، البرودة التي قابل بها المنصوري، شهية فؤاد علي الهمة في التنسيق مع حزب التجمع عقب انتخابات السابع من شتنبر 2007، ليتضح لمُهندسي المشهد السياسي، في دار المخزن، أن الرجل - أي المنصوري - ينتمي إلى مدرسة سلفه أحمد عصمان، وللتذكير فإن أهم أسباب الإطاحة بهذا الأخير من على قيادة نفس الحزب، تمثلت في عدم مُجاراته لترتيبات "العهد الجديد" في الساحة الحزبية، حيث وصل الأمر بالمُنقلبين عليه، عقب اختلاف حول عملية الإستوزار، إلى التهديد بمُحاكمته في قضية التسيير المالي للحزب، وفهم الرجل أنه يُدفع غصبا، للترجل من قيادة حزبية استمرت منذ سنة 1978. في خضم ذلك ظل مصطفى المنصوري، على حياد ذكي، اتجاه الحرب التي أُعلنت على صهر الحسن الثاني السابق، مما جعله في وسطية "مُفيدة" منحته هالة "حكمة وترو" كانت لها الغلبة وسط غوغائية المؤتمر الذي أطاح بعصمان، غير أن خُصومه كانوا يتحينون الفرصة للانقضاض عليه، وها هي ذي قد واتتهم، قدمها لهم الرجل – أي المنصوري – على طبق من ذهب، وذلك بالتحديد حينما، أخطأ في "التقدير" وتلكأ في فهم إشارات صُناع المشهد السياسي الحزبي والتدبيري بالبلاد. فكان من السهل الإجهاز عليه. لم يُدرك المنصوري، بما فيه الكفاية، أن "هُنَّاتِه" من منظور المُتربصين به، كانت تحت المجهر، بقُطر تضخيم كبير، ومَنَحَ "هُنة" الهُنات حينما تلفظ بحكاية "عودة المغرب إلى سنوات الرصاص من خلال حزب الأصالة والمُعاصرة".. وبالرغم من أن الرجل الحيادي الهادئ بطبعه، كان قد قالها في نطاق ضيق، فإن أهم رياضة وطنية في المغرب، أي الوشاية، تحركت بكامل عنفوانها، كيف لا والمكسب لا يُقدر بثمن، عند الطامحين، من زملاء المنصوري، في القيادة الحزبية. هكذا أصبحت كل الوسائل مشروعة، ليس فقط للإطاحة بالمنصوري، بل والنيل منه، حيث أصبح "مُفيدا" جرجرته وهو الثالث في التسلسل الهرمي للدولة، حسب منطوق الدستور، أمام القضاء، وكيل دستة تهم ونعوت له، بالعجز، وانعدام المسؤولية وما إلى ذلك، عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية المسموعة. اتخذت الحملة ضد الرجل، طابع مُطاردة، شبيهة بمشاهد التنكيل البدائية، حيث انقلب مرؤوسو الأمس، الطيعون المُؤتمرون للرئيس، بل والمُوالون له في معركة الظفر بقيادة الحزب، منذ أمد لا يتعدى السنتين، إلى مُستقوين شرسين، ينهشون لحمه علانية، كما تفعل غِربان الخلاء، مع ضحايا التيه. إن ما يجعل هزيمة مصطفى المنصوري، مُضاعفة، لعظيم أسفه، أنه لم يسقط في مُعترك مُشَرٍّف، حيث يرفع المُناضل، أو المُحارب، أو ما شِئتم، راية الدفاع عن مبادىء سياسية في حلبة تباري، بين مُستقو بالنفوذ والسلطة، وبين "بطل" أعزل إلا من مبادئه، وتشبثه بتغيير للأفضل، بل هي هزيمة نتجت عن سوء تقدير في التاكتيك، وذلك ضمن حلبة تباري أضيق مما كان يتصور مصطفى المنصوري. هي إذن هزيمة تُحيل على التندر، أكثر من أي شيء آخر، تماما كما لو انتهى المرء من مُشاهدة آخر (وليس الأخير) فصل من مسرحية "فودفيل". لا عزاء لمصطفى المنصوري، غير أن هزيمته "التراجيكوميدية" تطوي مأساة حقيقية للبلد وأناسه، وتتمثل في موت السياسة، بمعناها ومبناها الحقيقيين، وميلاد لعبة جديدة، للتباري بين خصوم، ينتصر فيها البعض وينهزم فيها آخرون، غير أنهم كلهم من ورق.