لم أكتب طيلة العدوان الصهيوني على غزة، ذلك العدوان الذي سُميَّ كَذِباً، وبُهتاناًَ، ونِفاقاً، وتدليساً بالحرب، وما هو بالحرب.. بل هو العدوان الشامل الذي لا يُبْقِي ولا يَذِرُ.. لم أكتب غضباً، واحتجاجاً، وحداداً.. قلمي لم يطاوعني إذاك.. الكلمات كانت تفر مني فراً إلى وجهة لا أدريها.. ربما كانت تطلب مني الهروب إلى غزة الأبية، حيث الرصاص يُلعلع، أو على الأقل، الانضمام إلى طوابير «العالقين».. رفضت الحروف حينها أن تُسَايِرَ رغبتي الجامحة في الكتابة، فها هي آناً تأتيني مطواعة.. كانت أياماً حزينةً، بئيسةً، مملةً، حين أقبلَ أهل السبت يدمرون الإنسان، والأرض، والسماء، والشجر، والحجر، يدمرون الجامد والمتحرك، يجعلون المتحركَ جماداً، والجمادَ متحركاً، بفِعلِ القتلِ الفاحشِ، بعدما أعدوا العُدَّة ورباط الخيل.. في غزة يومها بدا الإنسان يموت جملة وتقسيطاً، لكن مجاناً، وهدراً، وبدم بارد.. ما جرى في غزة نهاية العام الماضي، رغم أنه مازال جاثماً بثقله الرمزي، وعنفه المادي، لم يمض بعدُ، وضع العقل الغربي في مأزق تبرير قتل آل القطاع.. لأننا لن نتحدث عن ظلم ذوي القربى، الأشد إيلاماً، وعنفاً، وتمزيقاً.. لما انتخب آل القطاع من ارتضوهم مدبرين لشأنهم العام، سيراً على ما خطّهُ آباء الفكر الغربي، من أنماط الحكم، وطرق التداول على السلطة، نسوا أنه ليس من حقهم ذلك، فالديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان حكر على الذي أبدعها.. فأن يصوت السويسريون ضد رفع المآذن، فالأمر عادٍ جداً، وينسجم كل الانسجام مع الحرية، والمواطنة، وضرورة الانضباط لما تفرزه صناديق الاقتراع.. لكن أن يصوت أهالي غزة على توجه سياسي معين، فذلك لا يدخل ضمن نطاق الحرية في تقرير المصير، بل الأمر يستدعي رصاصاً مسكوباً ولو بعد حين.. أن يُباد الإنسان فرداً وجماعةً في غزة كما في جنين، وفي قانا كما في الفلوجة، فلابأس، إذ لا غرابة البتّة أن تصادف الخبر في صفحة المنوعات وأنت تطالع صحيفة دولية تصنع الرأي العام العالمي، وتوجهه يميناً وشمالاً، حسب ما تقتضيه مصالح المركب الصناعي-التجاري النافذ في مسام المجتمع الغربي.. أن تُقتلع الأشجار من مكانها اقتلاعاً بعدما كانت آمنةً مطمئنةً، فلا ضير.. لكن أن يتسبّب تسرب لترات من البنزين في نُفُوق حفنة من الأسماك في بحر الشمال، فجمعيات ومنظمات حماية البيئة، لن تسكت، لأن الأمر يهم مدريد أو لشبونة أو لندن أو روما.. أن تقصف المدارس جهاراً نهاراً، ويسحق التلاميذ في حجرات الدرس عن بكرة أبيهم، فذلك لأن التعليم ليس حقاً مشاعاً بين بني الإنسان، بل هو حكر على الإنسان الأبيض الذي يسكن في الشمال، علماً أن الإنسان العربي المسلم هو أولى بإقرأ.. لكن ما هو بقارئ.. إنها الحداثة وقد زادتها البذلة العسكرية بهاءً وألقاً، فبُورِكتِ أيتها الحداثة.. إنه العقل الغربي، حين يصمت أو يكيل بأكثر من مكيال، أو يدفن رأسه في الرمال.. إنه العقل الغربي الحداثي المشبع بثقافة حقوق الإنسان، لكن ليس أي إنسان، إنه الإنسان الغربي المسيحي الأبيض، دونما حاجة إلى التأكيد على أننا نضع تمايزاً واضحاً بين المُنصِفِينَ وذوي الحكمة من الغربيين، لكنهم قلة، سوف لن تجمعهم أصابع اليد الواحدة ولو حرصت، أمام بقية باقية متحاملة، حاقدة، مُوَجَّهَة، وبالتالي فهو - أي العقل الغربي - ليس سواء إلا بمقدار. لما رأيتُ أطفال غزة يصرخون وحيدون، محاصرون من الجهات الأربع، تدكهم الطائرات الحربية بالفسفور الأبيض دكاً، قلت إنهم شعب أصيل، إنهم شعب الجبّارين.. لكن تذكرت حكمة ذلك الحكيم الذي خرج يوماً يحملُ فانوساً في واضحة النهار، وعندما قيلَ له عن ماذا تبحث؟ قال: إني أبحث عن الإنسان.. ليس أي إنسان، ولكن الذي يقول اللهم إن هذا منكر.. وليس الذي يخرج في المسيرات، ويشارك في الفعاليات رفعاً للحرج والعُتب الجماعيين ليس إلا.. في غزة على امتداد تلك الأيام الكئيبة الحزينة، اتضح أن الإنسان غير ذي قيمة: حصار، وتجويع، وتخويف، وقتل، وفتك، وسفك، وقصف، وتدمير، وإبادة، واغتيال، وحرق، وظلم، ورصاص، وجثث، وقنابل، وشظايا، وطائرات، ودبابات، وانتهاك، وإرهاب، وعدوان.. الذي يكون بكل تأكيد الأول.. ولن يكون الأخير.. في غزة طيلة زمن العدوان، بدا المشهد ثنائيَّ الأبعاد في كل شيء.. ظهر سباق وتنافس شديدين بين إرادتين متناقضتين تناقضاً كلياً: إرادة الإبادةِ، وإرادة الإباءِ.. إرادة التدمير، وإرادة البناء.. إرادة القتل، وإرادة الإحياء.. إرادة الانمحاء، وإرادة الصمود.. إرادة الاقتلاع، وإرادة الغرس.. إرادة العويل، وإرادة الزغاريد.. إرادة الموت، وإرادة الحياة.. إرادة الفرح، وإرادة الحزن.. إرادة الصمت، وإرادة الفضح.. إرادة المحو، وإرادة التذكر.. إرادة الاستسلام، وإرادة الكرامة.. إرادة الألم، وإرادة الأمل.. مُحالٌ أن ننسى ما جرى، حتى ولو وجدنا للنسيان سبيلاً.. كيف أنسى صورة الطفلة التي فُصل رأسها عن باقي جسدها، ووُجدت صدفةً بين أكوام الأتربة.. صورة مازالت عالقة في ذهني، ونظراتها تلاحقني، تؤنبني، توبخني، تستفزني، تلامسني، تساءلني.. بأي ذنب قُتِلْتُ؟ أطفال غزة ليسوا أغبياء.. أُرِيدَ لهم أن يكونوا ضِبَاعاً.. لكنهم ليسوا بلداء.. لقد تحسّسوا جيداً وجوه من هم معهم، وتعرّفوا على هويات من هم ضدهم.. لقد أنِسُوا طويلاً بمن ظلوا مرابطين إلى جانبهم، يأكلون معهم حبّات زيتون وجرعات ماء، تحت وابل القصف الفاضح الذي لا يكاد يتوقف، لن ينسوا وجوه الذين خذلوهم وباعوهم في أول منعطف طريق لِقَاءَ دولارات معدودة.. لقد عرفوا من كان همهم تحصيل رأسمال رمزي رخيص من وراء الدفاع عنهم، وعرفوا أيضاً من حوصروا وجوّعوا واستشهدوا إلى جانبهم إيماناً واحتساباً بعدالة ونبلُ القضية.. أطفال غزة يعرفون من يصطفون إلى جهة الممانعة والكرامة، ومن يريدون تبييض الوجه القبيح البشع، لقتلة الأطفال والنساء، بهكذا مبادرات مشبوهة.. بأي حق يقتلُ الأطفال.. بأي حق ترملُ النساء.. بأي حق يقصفُ المدنيون.. بأي حق تدمرُ البيوت والأحياء الآهلة بالسكان.. بأي حق يبادُ الإنسان؟! عشيّة الذكرى الأولى للعدوان الصهيوني الظالم على غزة، مازالت غزة الإنسان، والأهل، والطفل، والجريح، والشهيد، والأسير، والمهجر، والمبعد، والمرابط.. مازالت غزة محاصرة، لكنها مازالت رمز للعزة، والصمود، والإباء، والكرامة.. نردد مع الشهيد الذي صرخ من عمق الحصار: حسبنا الله ونعم الوكيل! * باحث من المغرب