فازت مجموعة "فيوليا" بصفقة تدبير النقل الحضري في جهة الرباطسلا زمور زعير لمدة خمس عشرة سنة..وبذلك أحكمت قبضتها على هذه الجهة بصفة نهائية..فبعد التدبير المفوض لقطاع الماء والكهرباء والتطهير ، والتدبير المفوض للنظافة ، والتدبير المفوض لمواقف السيارات ، والتدبير المفوض لمشروع الترامواي ، هاهو قطاع النقل الحضري ينضم إلى اللائحة..والبقية تأتي..وهكذا أصبحت العاصمة الإدارية والمدن الدائرة في فلكها (سلا – تمارة) تحت رحمة هذه الشركة التي اكتسحت العالم فعلا في مجالات التزويد بالماء والكهرباء والتطهير والنقل الحضري ، وحققت في هذا المجال الأخير وحده رقم معاملات وصل إلى 5,6مليار أورو ، خلال سنة2007..وتتوفر حظائرها على 38078 حافلة ، وتؤمن نقل 2,5 مليار شخص في السنة في بقاع مختلفة من العالم.. "" قد تكون هذه الأرقام وحدها كافية ليقول المتحمسون لهذا التفويض إنهم على حق في اختيارهم..وإنهم ، أكثر من ذلك ، كانوا وطنيين حين فرضوا على تلك المجموعة اقتسام العمل مع شركتين محليتين تقتسمان النصيب المتبقي وهو على التوالي 28,06%(لمجموعة بوزيد) و20,90%(لمجموعة حكم).لكن هذه المبررات لا ينبغي أن تكون بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة..فالواقع المر الذي علينا أن نعترف به هو أننا فشلنا في تدبير مرافقنا الحيوية ، مما اضطرنا إلى الاستنجاد بالأجنبي الذي يجني من وراء هذه الاستثمارات أرباحا خيالية بفضل تشغيله لأيد عاملة محلية بأجور لا ترقى إلى مستوى سمعة المجموعة على الصعيد الدولي.. إن الدولة بانسحابها من تدبير هذه المرافق الحيوية تعلن استقالتها من تسيير الشأن العام وتفوضه للأجنبي الذي بدأ نفوذه الاقتصادي والمالي يتزايد بوتيرة مخيفة..وأصبح المواطن تابعا سياسيا لدولة يتراجع دورها باستمرار ، وتابعا اقتصاديا لشركات عابرة للقارات تتحكم في مصيره بشكل متصاعد وتُحكم طوقها حول عنقه بابتلاعها للمزيد من المرافق الحيوية في البلاد ، وبشروط لا يقبلها حتى مواطنو تلك الشركات أنفسهم ، كما حدث لسائح إسباني جاء ليركن سيارته في موقف خاص بالرباط..وعندما دخل إلى الموقف تبين له أن يغادره للتو ، لكن المشرفين طالبوه بأداء خمسة دراهم(نصف أورو)..فما كان منه إلا أن يحتج على دفع ثمن خدمة لم يستفد منها..غير أن المستخدم وجد صعوبة في إقناعه بأن هذا القانون وضعته شركة تابعة لبلده ، وأن عليه أن يكون أول من ينصاع لهذا القانون.. ومن الغريب حقا أن الدولة ، في خضم هذه التحولات ، تدعو المواطن إلى الانخراط في الحياة السياسية ، وتحثه على المشاركة في تسيير الشأن العام لمدينته وبلده ، في وقت عجزت فيه هي عن إعطاء المثل والقدوة..إن نسب المشاركة في الاستحقاقات الأخيرة، رغم ما عرفته من نفخ وتضخيم ، تكشف عن وعي جماهيري بأن المشاركة في تدبير الشأن العام هي مجرد مسرحية سخيفة لم تعد تثير فضول أحد ، وأن المجالس المختلفة لا تعدو أن تكون مقصدا لكل من سطر لنفسه أهدافا شخصية ومصالح ذاتية يسعى إلى تحقيقها هناك..ويكفي أن نتذكر ما عرفه الكثير من هذه المجالس من اختلالات واختلاسات وصراع على النفوذ والمصالح بعيدا عن المصلحة العامة للوطن والمواطنين..كما يكفي أيضا أن نستحضر الارتجال الذي تدبَّر به ميزانيات هذه المجالس ، والعشوائية التي تسود مشاريعه ومخططاته..ولعل زيارة خاطفة إلى مدننا وقرانا كفيلة بأن تكشف العجز المهول لهذه المجالس عن تدبير الشأن العام في هذه المناطق وانشغالها بتصفية الحسابات السابقة ، والنفخ في أرقام الحسابات اللاحقة.. وإذا كان التدبير المفوض يحمل عصا سحرية يستطيع بها حل المشاكل المستعصية على المجالس المنتخبة ، وعلى الدولة كذلك ، فلِمَ لا يشمل التفويض جانب التفكير أيضا وليس التدبير فقط؟ بمعنى أن نفوض لهذه الشركات العابرة للقارات أمر التفكير نيابة عنا في كل ما يتعلق بحياتنا العامة..فتزودنا بمنتخبين يفكرون في كيفية تدبير شأن مجالسنا الجماعية..وتزودنا ببرلمانيين يفكرون نيابة عنا في صياغة مشاريع القوانين المتطورة والقابلة للتنفيذ والتطبيق..ويفكرون في كيفية تحويل البرلمان من مجرد قبة يعتصم بالقرب منها المعطلون ، إلى قوة سياسية فاعلة في الشأن السياسي العام..ومما لاشك فيه أن هذا التفكير المفوض سيثمر اقتراحات عملية ستجد بالتأكيد آذانا مصغية لتطبيقها والعمل بها ، مادامت صادرة عن جهات معترف بها دوليا ولها مصداقية في شؤون التفويض.. ولا شك أن نجاح التجربة في هذا المجال سيوسع من آفاق أطماعنا لنطالب بالتفكير المفوض في مجال الفكر والثقافة كذلك..مادامت مؤسساتنا الثقافية لم تسلم هي الأخرى من عدوى الانسحاب من الحياة العامة وإعلان الإفلاس العام..ونستحضر هنا نموذج مؤسسة اتحاد كتاب المغرب الذي كان يتمتع بصفة "مؤسسة ذات نفع عام" ، ثم حولته الخلافات الشخصية والصراعات المصلحية إلى مؤسسة مشلولة لا يبحث أعضاؤها إلا عن النفع الخاص.. إن هذه التجربة ستمكننا من الحصول على "مفكرين" من العيار الدولي ، يعملون على صياغة مشروعنا الفكري والثقافي بعيدا عن المشاحنات الحزبية والانتماءات القبلية والولاءات الإيديولوجية..وتعفينا من "مثقفين" يتكاشفون سوءاتهم في أدنى اختلاف ، ويمشون على بطونهم في سباق محموم نحو المناصب والكراسي ، ويبيعون ماضيهم بلحظات عابرة في مراكز زائلة..صحيح أن التفكير علامة على الوجود كما قال ديكارت..ولكن هل نحن موجودون حقا؟هل يجوز أن نعتبر من عجز عن تدبير فضلاته ونفاياته ووسائل تنقله موجودا بالفعل؟أليس ذلك العجز دليلا على انعدام القدرة على التفكير لديه؟فدعونا إذن نخوض التجربة ونفوض أمر التفكير في كل شؤوننا لإحدى هذه الشركات العابرة للقارات لتنشئ بذلك إلى جانب خانة التدبير المفوض لديها خانة جديدة اسمها التفكير المفوَض...