عاد الهدوء إلى شوارع مدينة طنجة بعد أن طلب المغرب من الشاه مغادرتها , وكم تأسفنا لأنه لم تعد لنا ذريعة للإحتجاج, وبات من غير المبرر أن نتغيب عن المدرسة. "" كنا ندرك في خبايا أنفسنا أن احتجاجنا هو أبعد ما يكون عن وجود الشاه في مدينتنا.. وكان العهد بيننا وبين رفاقنا أن نعطل الدراسة احتجاجا على أشياء كثيرة كان وجود الشاه هو شرارتها الأولى .. فعدنا إلى الصفوف الدراسية ذات صباح بعد غياب وشغب واحتجاج. لم تمضي سوى لحظات على دخولنا حصة الرياضيات حتى فوجئنا بالحارس العام ومن ورائه ثلة من المعاونين والمعيدين, دخلوا القسم وبدأت أعينهم تفترسنا الواحد بعد الآخر .. سالوا عن العربي وعن محمد الشح.. ومحمد سعيد الوافي وأحمد ف.. حاول الأستاذ الفرنسي الجنسية إفهامهم أن هذا الأمر لا يجوز أن يتم داخل فصله وأنه من الأفضل أن يوجهوا إستدعاءات لأولياء أمور التلاميذ.. لكنهم تجاهلوا استنكاره واقتادونا إلى الإدارة .. ولم يتأخر المعاونون في استفزازنا وهم يتوعدوننا بأبشع العقاب. تم حبسنا في مكتب الحارس العام .. بينما كان أحد المعاونين يأتي وينادي على أحدنا فيرافقه إلى مكتب آخر. لم نكن لوحدنا بل ضم الإحتجاز مجموعات أخرى من التلاميذ من فصول وأقسام متعددة.. وبين الفينة والأخرى كنا نسم صراخا وسبا ففهنا أن الأمر يتجاوز مجرد الكلام .. بدا الرعب يتسلل إلى قلوبنا الهشة .. كنا نتبادل نظرات سريعة وكل منا يحاول إخفاء أمره عن الآخر - وشيني ماشي يطلعو منا .. والو .. أنا بعدا والله وخا يسلخولي الجلدة على اللحم ما نعطيهم شي إسم - وحتى أنا .. - وأنا معاكم - أنا بعدا ما عارف والو أصلا .. وخا نبغي نقول ما عندي ما نقول - وحتى حنايا حيت عارفيناك ماش تهضر ما دناكشي معانا لثانوية ابن الخطيب.. - شيني زعما ... انا ماش نخون ؟ - لا .. ماشي هكذاك .. كاين بنادم إلي ما كايصبرشي إحسنلو ما يعرف والو - وصافي شد دقمك آبنادم جاء دوري .. فوقفت صامدا وأنا أحاول إخفاء خوفي وهلعي.. فمسكني أحد الحراس من يدي وبدأ يسوقني وكأنني مجرم يقتاده لحبل المشنقة - وعلاش كتجرني .. ها أنا ماشي معاك بخاطري .. ولا باغي تظهر للحارس العام بلي انتينا مخلص .. صبر على والديك .. راك معروف فين ساكن .. إلى بقات فيك آ الجبلي راني ماشي ولد الوافي - وراك بصح ماشي ولدو .. راه باباك عيط للمدير وتبرا منك .. والله يا والديك حتى ماشي يطيرلك الجلدة على العطم - وعلاش .. شيني عملت .. ؟! - زيد قدامي وماش تعرف شيني عملت .. كان الحارس العام يجلس على مقعد وراء مكتب صغير يكسوه الغبار وبيده سوط أسود والغضب يتطاير من أحداقه الجاحظة بينما زغيبات شعره مصففة بشكل يوحي بأناقة كاذبة. - زيد .. آ البطل .. زيد .. جلس .. قبل ما تفتح فمك .. راه عندي ليك سؤال واحد إلى جاوبتني عليه بالصراحة ماش تخرج منهنا وترجع للقسم ديالك سالم حتى حاجة ما غا توقعلك .. ولكن إلى بديتي كتكذب .. راه الجن الأزرق ما يفلتكشي من يدي.. عنداك يقولك عقلك حيت باباك بوليسي ماش تفلت ؟؟ راه هو الأول طلب مني نخلي دار بوك - وخا .. يا الله .. بدا .. أنا ما عارف والو .. ضرب .. سلخ .. قلتني .. والله ما غنقول والو.. ولكن والله لا بقات فيكم .. طال الزمان ولا قصر - وكتحلف فيا .. ربط والديه.. كمم فمي وربطني وبدأ يضرب بسوطه على قدمي .. لم يدم الألم سوى لحظات ليتحول بعدها إلى إحساس بسخونة مفرطه تجتاح بدني من أخمص القدم .. كنت أبذل قصارى جهدي ألا يسمع صوتي .. لا يجوز أن أتحول إلى أضحوكة بين التلاميذ " .. افعلوا بجسدي ما يبدو لكم .. لن أبكي .. لن أذكر لكم اي إسم .. لن أترجاكم .. لن أتوسلكم .. كفاني توسلا .. كفاني انحناء .. ما شكل هذه الحياة ..؟؟ مطوقون نحن بين أمر البيت والشارع والشرطي والحارس العام والمدير والإمتحانات والتهديد .. بما عسانا سنفيدكم في المستقبل إذا كنتم تتفننون في إنتاج جيل من الجبناء.. كم أكره ما تسمونه التربية وكم أحقد على مقرراتكم البالية .." أطلقوا سراحنا بعد أن نكلوا بأجسادنا .. وأفرغوا في آذاننا مكبوتاتهم وما توارثوه من مفردات عهد كان القمع هو عنوانه والكبت سلوك أهله والإضطهاد أبرز معالمه .. أطلقوا سراحنا بعد أن غرسوا في أرواحنا الإحساس بالظلم والقهر والتسلط والجبروت وأقنعونا أن الوطن مجرد كلمة للزينة على لسانهم وأن شعار التربية والتعليم هو مجرد لون من ألوان الدجل. حملت آلامي وسلكت حي الموظفين في اتجاه بيت عمي .. جلست على درج الباب الخلفي للبيت وأطلقت بصري متجولا في أشجار الصفصاف الباسقة التي كانت تسيج ثكنة للجيش كانت تحد البيت من الجهة الجنوبية.. لم أقوى على الوقوف بعد أن انتفخت قدماي فتمددت على ظهري وشخصت بنظري في السماء ..وما أجملها زرقة سماء طنجة وفجأة بدأت أرسم من السحاب وطنا أكثر أمنا يتسع لكل الأفكار.. وطنا نحترم فيه بعضنا البعض ولا نخاف .. وطنا نحرص على نظافة شوارعه ولا ننتقم منه ولا نتلدد بسبه والتقليل من شأنه تذكرت كلامي الأستاذ عبد الكريم الترجيستي .. - كل واحد منكم يملك الحقيقة.. ولكل منكم الحق في الدفاع عن حقيقته .. سحبتني عبارات هذا الرجل الرائع والأستاذ العبقري نحو دنيا غير دنيانا المعتقلة وشدتني كلماته نحو ذلك الأفق المتستر وراء الجبال والظلال والألوان والنفاق المرسوم على شفاه البشر .. أنا إذن مالك لحقيقتي .. وحقيقتي هي أن أترك وشأني .. الا يكفي أنني حرمت من والدتي ولم يتجاوز عمري الخامسة ؟ الا يكفي أن أرى صورها وذكرياتها تمزق أمامي وأنا أسجل تلك اللحظات في عمقي بالم وحسرة حفرت على تضاريس قلبي اثرا لن تمحوه السنون.. ألا يكفي أن تكون المدرسة معتقلا وموطن عقاب والبيت معتقلا وساحة حرمان والشارع حلبة سباق البارع فيه من يعود إلى أهله سالما دون خدش أو جرح على خده بمشرط معتوه أو حشاش غائب عن الوعي.. أحسست بيد عمي الفاضل وهو يتفحص قدمي .. كان الرجل ورغم ما يتعمد إظهاره من قساوة ورباطة جأش , طيبا .. حنونا ويتألم في صمت لأسباب كثيرة لا يعبر عنها لكنك تفهمها بمجرد التمعن في أحداقه الغارقتين - أنا كنت عارف هدشي ماش يوقع .. وباقي ملي ماش يرجع باباك - ولكن آعمي البركة فيك نتينا تفاهم معاه .. انا عييت .. كلشي ممنوع .. كلشي حرام .. بغيت نشوف الواليدة ممنوع .. بغيت نكون أدبي ماشي علمي ممنوع .. بغيت نقرا الرسم والفنون الجميلة ممنوع .. - وشمن علاقة عندو هادشي بالمظاهرات والإضراب إلي شاركت فيه ؟ - علاش نتوما ما كنتوشي كتعملو المظاهرات أيام الإستعمار - ولكن هذاك كان إستعمار .. - وعلاش هذا استقلال آ عمي .. ؟ كلشي ممنوع .. كلشي حرام .. - دخل .. دخل وسكتنا من هاذ التخربيق .. دخل غسل رجلك وعملهم الثلج.. آشداك للمشاكل .. آش بينك وبين شي شاه .. شنو ربحتي غير طبخة القلب آ راس المحاين - لا أعمي .. ماشي طبخة القلب .. دبا أنا مش نهضر معاك بالصراحة .. شفتي حنايا .. ما بديناشي المظاهرة غير على الشاه .. راه المشاكل لي عندنا بزاف .. والتعادو كبير .. مدرسة عبد الكريم الخطابي ولات بحال الكوميساريا .. أحسست يومها أن خيط الصداقة بدأ ينسج خيوطه بيني وبين صديق والدي وتحولت حواراتي معه إلى مادة فكرية دسمة .. وفهمت منه بعد سنوات أنه كان شاهدا على كل المشاكل التي نشبت بين والدتي وأبي وأقسم لي مرارا أنه لم يدخر جهدا في الحيلولة دون طلاقهما.. أوجدت لعمي الفاضل مكانا في قلبي رغم أنني لم أغفر له أنه ضربني ذات يوم بكل قسوة .. رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته. نمت ليلتي وأنا أتوجع من الألم كنت أزيح الغطاء عن قدمي لتفادي الإحتكاك .. شردت أتمعن في هذا الواقع .. افتقدت صحبتي ورفاق حي بال فلوري وليالي اللهو اللعب البريء افتقدت أيام كنت أجهل الحق ولا أتوق له .. ثم فجأة وفي حلكة الظلام الدامس عاودتني تلك الصور .. فتحركت قطعة من جسدي وبدأت تتمطط بشكل لا إرادي ففهمت أنها الحاجة الماسة إلى الأنثى .. لكن كيف لي بها وأنا ممدد منفوخ القدمين .. جاهدت نفسي كي أطرد الصورة بكل عناد .. وغالبني النوم بعد يوم فقدت فيه القدرة على الكلمة وسلبت حقي في الحياة بأمان. [email protected] mailto:[email protected] www.elmuhajer.com http://www.elmuhajer.com