إهداء ومناسبة : "" إلى " روح " أول قاعة سينمائية زرتها في حياتي ، سينما " المدنية " التابعة لعمالة ابن امسيك سيدي عثمان الدارالبيضاء/ المغرب والتي تم هدمها يوم السبت 10 أكتوبر 2009 . في زيارة تفقدية لمدينة "واد زم" منذ أكثر من سنة رفقة صديقي الدكتور الحبيب ناصري والذي هو بالمناسبة أحد النجباء الذين صنعتهم هاته المدينة التاريخية.... وبينما كنا نحتسي كأس شاي، اقترحنا أن نقوم بجولة عبر شوارع وأزقة هاته المدينة المقاومة، وبالفعل استمتعت بهاته الجولة ، استمتعت لأن صديقي كان هو مرشدي، بالفعل كانت تنتابني بين الفينة والأخرى أسئلة من قبيل التساؤل عن السوق الأسبوعي وعن فضاءات الاستجمام رفقة العائلة وعن المناطق الخضراء وعن العمران والمقاومة وساحات الفروسية/التبوريدة والحلقة والسويرتي .. بهاته المدينة المناضلة، وطبعا وهذا هو المهم التساؤل عن مكامن الجمال أقصد دور وقاعات السينما، وبالفعل لبى رغبتي مستهلا جولتنا برفات وبقايا سينما، بالفعل شاشة عرض ظاهرة للعيان مصنوعة من الجدار، شاشة كبيرة مصبوغة بالأبيض ومؤطرة بالأسود بطريقة مرتجلة، فضاء هاته الشاشة أعني كراسيها أصبح مجزأ قطعا أرضية، وتحولت مرافق تلك القاعة إلى أرصفة، قلت لصاحبي : " هذا منكر " واتفقت معه على أننا سنعود الأسبوع المقبل وطبعا مصحوبين بآلة تصوير للوقوف على جزئيات الموضوع، وبالفعل عدنا خلال أسبوع مرفوقين بآلتنا، توجهنا مباشرة إلى عين المكان، حقيقة وجدنا صعوبة لالتقاط صور لأن المارة كانت لا ترى في المكان جمالا ولا سببا من الأسباب المغرية لأخذ صور تذكارية، وفكرنا لكي نلف أنظار المارة، أن نأخذ صورا لبعضنا كشكل من أشكال التمويه، حينما انتهينا اقترح علي صاحبي كي نعمق البحث في الأمر أكثر أن نذهب عند أحد أبناء المدينة الذين عاصروا سيرورة هاته القاعة/ السينما وكانوا من روادها، واتفقنا على أن نتصل بصاحب الأرض ربما قد يشفي غليلنا، وبالفعل كان صاحبها أحد المسؤولين بالمدينة، جالسناه واستفسرنا عن تاريخ هاته القاعة، وبالفعل أتحفنا بالكثير ونحن نحتسي قهوتنا صحبته، وبحكم الحميمية التي خلقت بيننا وبين صاحب التجزئة الأرضية، اقترحت على صديقي أن نرجئ الكتابة في الموضوع : واليوم وبعد انتقال صاحب التجزئة إلى جوار ربه منذ ما يقارب السنة، انتعشت في رغبة الكتابة في الموضوع، وصدقوني أن مشاهدتي لفيلم " سينما برديسو "،"CINEMA PARADISO " كانت إحدى الأسباب التي جعلتني أفكر في الكتابة، طبعا إن من شاهد هذا الفيلم لمخرجه الإيطالي " GIUSSEPE TORNATORE "، سيعود بذاكرته المختمرة إلى سنوات الطفولة والعنفوان، دعونا نسلم بأنه ربما كان فيلم " CINEMA PARADISO " من أولى الأفلام التي تكهنت ببداية أفول نجم القاعات السينمائية طبعا أواخر الثمانينيات، آنذاك كان جهاز التلفاز والكاسيط فيديو إحدى الأسباب لذلك الأفول، ترى ما هو موقف مخرج فيلم "CINEMA PARADISO " من الهزة الأرضية التي أصابت قطاع القاعات السينمائية وبالطبع مع الثورة التكنولوجية الحالية . إن الصراع الذي كان دائرا بين بطلي فيلم " سينما برديسو" بين " " TOTO الطفل المشاكس و "ALFREDO " الإنسان المناضل وهو الذي قضى ربيع حياته في عرض الروائع السينمائية العالمية، ليختزل في العمق الصراع الداخلي لكل من كان يجد في مشاهدة الأفلام بفضاءات العرض استرجاعا لذاكرته حينما ينصح الطفل " طوطو " بعدم امتهان تلك الحرفة حرفة عرض الأفلام، كان يعلم ببداية أفول قاعات العروض السينمائية التي كانت فضاء الكبير والصغير المرأة والرجل وحتى الرضيع على حد سواء بل وحتى المجنون : كانت تلك القاعة كما يجسدها الفيلم بمثابة " المعبد " الذي يجب أن يتوافد عليه الجميع ليشفي غليله وليفعل ما يشاء، هي لحظات استرجع من خلالها ذكرى التحف السينمائية بداية من الأفلام الإيطالية والفرنكوفونية والأنكلوساكسونية وحتى العربية التي كانت مصر رائداتها، لقد حاول الفيلم أن يقول للمتلقي/المتفرج أن الرحلة إلى السينما لمشاهدة الأفلام كانت معيشا يوميا، كانت السينما النصف الثاني الروحاني الرمزي للوجدان للتغذية ولم تكن مكملا أبدا . حينما استدعي بطل الفيلم " طوطو " الطفل المشاكس الذي سيصبح فيما بعد رجلا ناضجا أي خلال الفترة التي غادر فيها فضاءه الطفو لي والشبابي... المقترن باحتكاكه بقاعة : CINEMA PARADISO " "حينما استدعي لحضور جنازة " ألفريدو " الذي هو رمز لتشييع جنازة اسمها " قاعة السينما " ، كان ينتظر التشييع الحقيقي لذلك الفضاء حينما علم أن القاعة ستتحول إلى مرأب للسيارات : سيحضر التشييع الحقيقي لهدم تلك القاعة/التاريخ وكم كانت الضربة قوية حين ركز المخرج عن ملامح تلك الوجوه التي عاشت السينما التي كانت بمثابة الجنة أو المعبد في مخيلتهم ، وجعلت منها خبزا روحيا، كم كانت الوجوه مهزوزة ومهزومة وموشومة بعلامات التحسر لأنها ستحضر ساعة إعدام حقيقية لفضاء يستحضر فيها كل مريد طفولته وعنفوانه وشبابه وكهولته بل وحتى شيخوخته ... بنفس الوثيرة التي عاين بها طوطو/الرجل إعدام مكمن من مكامن الجمال نعيش اليوم إعدامات مسترسلة لفضاءات عاصرها جيل كانت مرجعيته الفكرية والإيديولوجية تعبأ وتشحن من دور وفضاءات السينما، طبعا من خلال الأفلام التي كانت ذات حمولات إيديولوجية، بنفس الوثيرة التي أعدمت بها قاعة " برديسو " أعدمت قاعات سينمائية مغربية وهناك قاعات قيد التفكير في إعدامها، ترى ما سر التمثيل والعبث بمثل هاته الفضاءات الموروث الجماعي والتي أصبحت الحاجة ملحة لها اليوم وأصبحت وسيلة من الوسائل التي بها ومن خلالها يمكن أن تساهم في نبذ كل أشكال التهور الشبابي وكل أشكال الانفلات الفكري والأخلاقي الذي قد يصيب هاته الأجيال المنكسرة الأجنحة بلا منازع، ترى ما هو دور الجماعات المحلية وما هو دور وزارة الثقافة إن هي لم تتحالف من أجل احتضان وإنقاذ تراث ثقافي، تراث ليس من السهل صناعته، تراث كله جمال وكله ذكرى وكله تاريخ إنساني وكله ذاكرة جماعية، وبالتالي ما هو دور تلك المؤسسات الرسمية وغيرها إن هي لم تتبن ملكية هاته الفضاءات، بل وإعادة صيانتها واستغلالها بطرق علمية وحضارية تراعي شروط السوق وشروط التطور الآني والمستقبلي، إن كل من يفكر في تكريس سياسة الاسمنت فإنه لن يساهم إلا في خلق جيل متحجر وصلب وعنيف ... جيل يعيش بجناح واحد يصعب عليه التحليق في دنيا الفكر والحلم ودنيا الجمال. في ظل غياب شعور جماعي بصعوبة الموقف سنظل متفرجين ومحاسبين تاريخيا كما حدث للطفل " طوطو " الذي عاين مشهد الموت/الإعدام وهو الرجل الشهم الذي لم تسعفه شهامته وظروفه وقوة قراره كي يحاصر تلك النكبة ، عاينه بعين التحسر والأسى ، وطبعا ففي ظل غياب منقذ ومبشر بأحقية الأجيال المقبلة بقانونية ميراثها لمثل تلك الفضاءات التي تبني فينا الشعور بالتواجد الوجداني والانتماء للوطن، سنظل نلقي باللائمة على الجهات المعنية التي لم تستطع لحد الآن التعجيل بوضع قانون للحد من اندثار وإعدام مثل هاته القاعات، إن للشجرة وللنخلة قانونا يحميها فهل منا من فكر في تشريع وسن قانون يضرب على أيدي من يطمس معالم أمكنة كان لها الفضل في صقل شخصيات أجيال وشكلت بالنسبة لهم فضاءات يتنهدون حينها كلما مروا بجانبها أو تذكروها لأنهم يتذكرون بها ومن خلالها بعضا من تاريخهم الطفولي والشبابي - ؟ تلك أسئلة سنترك الأيام تجيب عليها . ملاحظة لابد منها : منذ ما يزيد عن السنة وأنا أتردد في نشر هاته المقالة، ربما لأن أمر الهدم أصبح مألوفا ، وربما انصياعا مني للأمر الواقع ، وربما... وربما... وربما .. كثرت الرباميات، ..... لكن حينما علمت أنه بتاريخ السبت 10 أكتوبر 2009 ، تم الإجهاز على أحد معاقل الجمال وهي أول قاعة سينمائية زرتها في حياتي اسمها سينما " المدنية " التابعة لعمالة ابن امسيك سيدي عثمان بالدارالبيضاء انتابني شعور بأن أرفع رسالة تعزية إلى كل عشاق السينما عموما وإلى كل الذين زاروا هاته القاعة، طبعا بعدما قمت بزيارة ميدانية بواسطة سيارة أجرة لعين المكان فقط من أجل حضور بعضا من مراسيم التشييع . *مهتم بالسينما