نساء متألّقات فريدا كاحلو.. ما إنفكّت هذه المرأة المكسيكية اللّغز تحيّر العالم ، وتدغدغ عواطف كلّ عاشق واله بالفنّ الرّائع، والإبداع البديع ، وما زالت هذه الفنّانة تملأ الدّنيا، وتشغل الناس فى كلّ مكان .وما فتئ النقّاد والباحثون فى مختلف أرجاء العالم يعتبرونها من أبرز النساء المتالّقات البارزات فى أمريكا اللاتينية اللائي لهنّ اليد الطولى فى عالم الخلق، والعطاء، والإبداع . ما لا يعدّ ولا يحصى من المعارض والتظاهرات العالمية نظّمت لها، وحولها فى مختلف أنحاء المعمور منذ رحيلها عام 1954، كانت لوس أنجليس، وسان دييغو، وباريس آخر المحطّات التي شهدت آخر المعارض الكبرى التي نظمت حول إبداعاتها الفنية المحيّرة والمثيرة وحول زوجها ورفيق عمرها دييغو دي ريفيرا مؤخّرا ، والتي حقّقت نجاحات منقطعة النظير، ففي غضون 83 يوما التي إستغرقها معرضها بباريس أمّه ما يناهز ثلاثمائة ألف زائر، أي بمعدّل حوالي أربعة آلاف زائر فى اليوم. وعمّا قريب سيفتتح معرض كبير لهاذين الفنانين العبقريين فى إيطاليا فى كلّ من روما إبتداء من 20 مارس إلى 31 أغسطس من العام الجاري، ثم فى مدينة جنوة من 20 سبتمبر 2014 إلى 15 فبراير2015 .هذه المرأة اللّغز التي أصبحت من أغرب الظواهر الفنيّة الفريدة فى تاريخ الإبداع التشكيلي فى المكسيك ، ومن أشهر نسائه فى القرن العشرين، بل وفى مختلف بلدان هذا الشقّ النائي من العالم الجديد الذي نطلق عليه أمريكا اللاّتينية.إنها صورة حيّة، وتجربة نابضة تبيّن لنا إلى أيّ حدّ يمكن أن تصل معاناة إمرأة ومكابدتها . صورة فريدة لمعاناة إمرأة ومكابدتها لم ينقطع الحديث عن هذه الفنّانة الغريبة الأطوار منذ رحيلها إلى اليوم، لقد أصبحت محطّ أنظار مختلف الأوساط الفنية والأدبية فى العالم ، قصائد عصماء،تكتب عنها ، أفلام تنجز حول حياتها الغامضة المتقلبة ،أعمالمسرحية تقدّم على خشبات العواصم الكبرى فى مختلف بلدان العالم حول غرامياتها،وعن زواجها من عبقريّآخر للفنون التشكيلية فى المكسيك دييغو دي ريفيرا ، معارضتقام فى كلّ مكان حول أعمالها التي تحفل بالغرائبية والحزن العميق والتساؤل والحيرة ووالقلق والمكابدة.رمز النساء المتحرّرات المدافعات عن بنات جنسها ، صورتها وإسمها،أصبحا يرصّعان المجوهرات والخواتم والأساور، ويظهران فى الملصقات والأقمشة،والقمصان، والقبّعات . إسمها ماغدالينا كارمن فريدا كاحلو ، ولدت فى السادس من شهر يوليو من عام 1907 بمكسيكو، فى نفس المنزل الذي عرف رحيلها فى الرابع عشر من نفس شهر ولادتها بعد إنصرام 47 سنة من حياة قصيرة، ولكنّها ملأى بالمرارة والمضض والأحلام والآمال والآلام.كان منزلها يسمّى" بالدّار الزرقاء" وكأنّها كانت على موعد مع هذا اللون السّماوي الحالم منذ لحظة ولادتها أو قدومها إلى هذا العالم الذي خبّأ لها غير قليل من المفاجآت القاسية من كلّ نوع.هذا اللون إستعملته فريدا فى رسوماتها على الرّغم من أنّ فضاء حياتها كان عابسا ملبّدا مكفهرّا شحّت فيه البسمات. والدها " غيّيرمو كاحلو" لا يعرف الكثير عن أصله سوى أنه كان مهاجرا قدم من مدينة " بادن بادن" بألمانيا إلى المكسيك فى يوم من أيام عام 1872 ولم يكن يحمل معه وقتها سوى متاع يسير ينحصر فى معارف قليلة حول فنّ التصوير وهيام كبير بالتشكيل،كان من أشدّ المعجبين بشوبنهاور ،كان قليل الكلام ، قليل الأصدقاء ، قليل الحظّ إلاّأنه لمس فى إبنته فريدا شيئا غريبا منذ نعومة أظافرها، فقد كانت تجسيدا حيّا لطموحاته الشخصية التي أخفق فى تحقيقها . كان يرافقها من مكان إلى آخر، ويشجّعها عندما بدأت مواهبها تتفتّق ،وقريحتها تنضج فى فنّ الرّسم .كان يساعدها على حمل الريشة ليضعها بين أناملها الواهنة، ويقدّم لها النصح لترخي لعبقريتها العنان ،وإلى جانب عملها الإبداعي كان يلقنها كذلك كيف تواجه الصّعاب، وكيف تتعلّم تحمّل الآلام الجسدية المبرحة التي هيأتها لها الأقدار،ورصدتها لها اللحياة.ليس بالتأوّه أو النحيب،والصياح، بل بالافعال والإنتاج والعطاء المتواصل، وترجمة أحاسيسها ،وتصوير عوالمها الداخلية، ووضعها فى أعمال فنية، وقوالب إبداعية نادرة ومحيّرة .أمها " ماتيلدي كالدرو"كانت إمرأة مفرطة فى التديّن والإنغماس فى الغيبيات،عارضت زواج إبنتها من أحد عباقرة عصرها " دييغوديريفيرا" الذي كان يصفها بأنّها" إمرأة قاسية وأميّة" إلا ّأنها كانت ذكية نشيطة وباهرة الحسن. فريدا بريشة فريدا عندما وقعت فريدا فريسة مرض عضال ألزمها الفراش كانت تسهر وتسهد ويمانعها النوم وتشعر بوحشة قاتلة ولم تكن تجد من سلوى وسلوان سوى الإنغماس فى عالم الرّسم والإبداع وهو معولهاا الوحيد الهشّ لقهر عزلتها الرهيبة والتغلب على وحشتها ،ثمّ أخيرا إهتدت إلى حيلة لملء فراغها القاتل فطلبت بوضع مرآة كبيرة على سقف حجرتها فوق موضع سريرها ، وهكذا كانت فريدا تقضي السّاعات والأيام إلى جانب فريدا!ومن هنا يأتي سرّ العدد الهائل من الرّسومات واللوحات الشخصية أو الذاتية التي رسمتها لنفسها بعد أن أطلقت لخيالها الإبداعي العنان .ولقد حققت فريدا بهذه اللوحات بالذات شهرة واسعة وصيتا بعيدا تخطّى حدود بلدها إلىمختلفأرجاءالعالمالفسيح،وبعدولادتهامرضتأمها،ولميكنفىمقدورهاإرضاعهافأرضعتهاهندية من السكّان الأصليين ، وكان لهذا الحادث تأثير بليغ على حياة فريدا إذ بواسطة هذه المرأة تجسّدت فيها – على حدّ تعبيرها- وتناسخت أرواح السكّان الأقدمين من المكسيكيين..! وفي السادسة من عمرها أصيبت بمرض شلل الأطفال، وظلّت حبيسة منزلها لمدّة تقرب من الحول، وعندما ذهبت إلى المدرسة فيما بعد لقبتها زميلاتها " بفريدة ذات القدم الخشبية" لشدّة نحافة قدمها التي كانت تحشوها بجوارب سميكة ليتساوى حجمها مع قدمها الأخرى .عن والدها ورثت فريدا حبّالحياة ،والإستمتاع بها وروح المغامرة، وعشق الطبيعة ،وهكذا جمعت الأب والإبنة آصرة واحدة فى غياهب الوحدة الرهيبة ، وظلمات العزلة القاتلة وفى عام 1915 إلتحقت فريدابالمدرسة الوطنية الإعدادية بعيدا عن منزلها الأزرق. زواجها من دييغو ومثلما كان "أوسكار وايلد" يقول أنّ هناك حادثين إثنين طبعا حياته، وهما عندما ذهب به والده إلى الجامعة،وعندما ذهب به المجتمع إلى السّجن،كذلك كانت فريدا كاحلو تقول:"هناك حادثان إثنان غيّرا مجرى حياتي ، وهما عندما تحطّم عمودي الفقري، ورماني الهوى فى أحضان دييغو"!. كانت فريدا قبل أن تتعرّف على هذا الفنّان الكبير تعاكسه بطرائق شيطانية فريدة..!فقد كانت تضع الصّابون على السلّم الذي يصعده لرسم جدارياته الشهيرة فتنزلق قدماه ويقع من طوله !وكانت تخفي سلّة غذائه فيتضوّر جوعا فلا يقوى على العمل ! وعندما تعرّفت عليه كانت تسبّب له غيرة قاتلة، إلاّأنها كانت قد وقعت فى حبائل حبّه ،وكانت كلّ أمانيها فى الحياة أن ترزق بطفل من زوجها دييغو ريفيرا، إلاّأنّ الطبيعة وقفت لهما بالمرصاد ،ولم تتحقق هذه الأمنية فى حياتها. إعجاب المشاهير بها عندما بدأت مواهب هذه المرأة تتفتّق داخل محيطها الأوّل ، ثم طفقت شهرتها تتخطّى رقعة بلادها بدأت تحظى بإعجاب كلّ من رأى لوحاتها أو قرأ شيئا عن حياتها المتقلبة والمريرة ، ومن أشدّ المعجبات بفنّها من بنات جنسها إيزابيل رسوليني كراوفورد ، وغلوريا إستيفان،وإلينا بونياتوسكا،ومادونّا التي إقتنت لوحتين من لوحاتها المعروفتين ، وهما :" صورة ذاتية" (1940) و"ولادتي" (1932)،وسواهنّ من المعجبات. وقد إستحوذت بفنّها على الكثيرين ، وحسب بعض المجلات الأمريكية فإنّ فريدا تقف فى مصافّ 60 أعظم شخصية أثّرت فى تاريخ المكسيك المعاصر ، وظلّت فريدا منذ رحيلها فى 14 يوليو 1954إلى 1970 مغمورة خارج بلادها ، وعندما إنتشرت شهرتها فى العالم كالهشيم إعتبرت أعمالها الفنية " تراثا وطنيا" ممّا زاد فى أهمية فنّها وأعمالها ،وقد حضّرت فى العديد من الجامعات الأمريكية ،والأوربية رسائل وأطروحات دكتوراه حول حياتها وأعمالها الفنية . ولم تنظّم هذه الفنّانة خلال حياتها القصيرة (47 سنة) سوى معرضين إثثنين فريدين،وجلّ أعمالها إقتنيت من طرف أصدقائها، ومنذ 1978 بدأت لوحاتها تجوب العالم ،وإحتلت مكانة خاصّة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية بالذات ،وفى هذا البلد حققت لوحاتها أعلى المداخيل التي أدركها الفنّ التشكيلي فى تاريخ أمريكا اللاّتينية.فقد نافت أسعار بعض لوحاتها الثلاثة ملايين من الدولارات، وقد بذّت فى ذلك فنانين عالميين آخرين فى بلدها مثل زوجها دييغو ريفيرا، أو طامايوفى المكسيك ، أو بوطيرو فى كولومبيا وسواهم. قنبلة موقوتة عندما كانت قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها كانت قد أجريت لها 35 عملية جراحية على إثر حادثة سير داخل حافلة ، وكان لهذا الحادث تأثير كبير وحاسم على حياتها وعلى زواجها ، حيث أصبحت لا تدع أيّ لحظة من لحظات عمرها المرير دون رصدها أو رسمها أو ترجمتها إلى أعمال فنية مشحونة بأرقّ الأحاسيس ، ومفعمة بمشاعر الحزن والأسى والألم،وهكذا أصبحت لوحاتها عبارة عن مشاهد حيّة ناطقة وصادقة تعكس مختلف مراحل عمرها وحالاتها النفسية المتقلبة . وهكذا نقلت هذه الفنانة بواسطة الريشة للناظر إلى لوحاتها تلك اللحظات المرّة والعصيبة أو الحلوة والسعيدة التي عاشتها أو عايشتها. لقد وصفها أبو السّوريالية الفرنسي " أندري بريطون" لذي تعرّف عليها فى المكسيك عام 1938 بأنها فنّانة سوريالية بالطبيعة من طراز رفيع ، وقد وصفها بأنّها قنبلة موقوتة موثوقة إلى ضفائر شعرها..!إذ تنبثق من لوحاتها طاقة غريبة تبدو فيها فريدا وكأنّها تتعلّق وتتشبّث وتتمسّك بالحياة ،وعلى صفحة هذه اللوحات تنزلق دمعات حرّى ، لقد كانت تقول:" إنّني أرسم ذاتي لأنني أكثر النّاس معرفة بها". وتشير الناقدة الأمريكية " هايدن هيريري" التي وضعت أشهر كتاب حول فريدا فى أمريكا إنّ المائتي لوحة التي رسمتها هذه المرأة فى حياتها منذ سنّ التاسعة عشرة من عمرها حتى موتها هي فى الواقع حوار " مع نفسها وتفجير للطاقات والصّراعات واللواعج التي كانت تعتمل بداخلها ".كانت مغرمة بإرتداء الأزياء التقليدية الشعبية المكسيكية للتّباهي بأصلها المكسيكي ، ثمّ لتخفي عيباأو عاهة فى شكل حدبة فى ظهرها بسبب إعوجاج فى عمودها الفقري. فى مدينة ناطحات السّحاب وفى عام 1929 سافرت فريدا كاحلو مع زوجها دييغو ريفيرا إلى سان فرانسيسكو، ثم إلى نيويورك حيث شارك زوجها فى أعمال فنية هامّة ، وقد إستغلّت فرصة وجودها فى الولاياتالمتحدةالأمريكية فأجرت فحوصا طبيّة للحالات الصحيّة التي كانت تعاني منها ،وتعرّفت إلى جانب زوجها على العديد من الشخصيات الشهيرة فى ذلك الوقت فى نيويورك، وهكذا أخذت لها ولزوجها دييغو عدّة صور على يد الفنانين الأمريكيين المعروفين مثل " إيماجين كوينهام " وإدوارد ويسطون" وعند عودتهما من الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى المكسيك إشتغلت فريدا معلمة للرّسم فى المعهد العالي للفنون التابع لوزارة التربية العمومية الذي كان تحمل إسم " الزمرّدة". حصلت فريدا عام 1947 على الجائزة الوطنية للفنون والعلوم ، ومن أعمال لوحاتها الشهيرة التي أنجزتها فى هذه الفترة: " التفكير فى الموت" و" دييغو فى فكري" و" زهرة الحياة" و" العمود الفقري المكسور" و" يا شجرة الأمل دومي شامخة دائما" و:" صورة ذاتية" و" عناق الحبّ والكون" . المرأة الأسطورة كانت فترة الأربعينيات صعبة جدّا فى حياة فريدا ،فقد ساءت علاقتها مع دييغو حتّى وصلت حافة الطلاق إلّا أنّ القطيعة فى الواقع بين الرسّامين العبقريين لم تقع ،كانت العلاقة بينهما جدّ معقّدة ، كانت تشعر بعقدة عدم الإنجاب ، ومداهمة المرض لها فى كلّ حين ، وعندما إشتدّت بها العّلة لم يكن دييغو إلى جانبها، بل صار يقيم علاقة حميمية مع معشوقته القديمة " أنجيليكا بيلوف" التي كانت بمثابة زوجته الحقيقية حتى ولو لم يتم الزواج بينهما ، كما ظهرت إمرأة أخرى فى حياته عندما وقعت فريدا فريسة المرض كذلك وهي " غودالوبي مارين" كانت هذه المرأة بالنسبة لدييغو بمثابة تجسيد للجمال المحسوس فى مظهره الخارجي، فى حين كانت فريدا تمثل جانبا آخر من حياة الفنان وهي روحه الجامحة، وقد فهم دييغو هذا الشعور عندما رسم فريدا فعبّر عن حالاتها المتقلبة ومعاناتها وهو فى الواقع كان يعبّر كذلك عن حالاته ومعاناته وتناقضاته ، قال ذات مرّة الدكتور " ليو إلويير" : " إنّ دييغو كان له حبّان إثنان الأوّل هو الرّسم ، والثاني هو الأنثى وهي ليست بالضرورة فريدا ! فريدا ومنحة غوغنهام عثر المؤرّخ المكسيكي " إنكريد سوكاير" فى بعض الأوراق من مخلّفات فريدا كاحلو التي توجد فى خزانة وثائق الدولة المكسيكية على طلب كانت قد تقدّمت به عام 1939 للحصول على منحة دراسية من مؤسّسة غوغنهام ، والطلب موجّه " لهنري آلان مو" السكرتير الثاني بهذه المؤسّسة ، وجاء فى هذه الرسالة:" بدأت الرسم منذ إثنى عشر سنة، وذلك خلال مكوثي فى الفراش لمدّة تقرب من عام على إثر حادثة سير ،خلال هذه السنوات عملت بواعز تلقائي وبدافع من أحاسيسي ومشاعري، لم أتّبع قطّأسلوب أيّ مدرسة معيّنة ،كما أنني لم أتأثّر بأحد،ولم أنتظر من عملي سوى الإنشراح الذي كان يقدّمه لي الرّسم فى حدّ ذاته حتى أقول وأعبّر عمّا لم أستطع قوله أو التعبير عنه بطريقة أخرى.رسمت وجوها ،وتراكيب، وصورا ،ومواضيع لها صلة بالطبيعة وبحالاتي النفسية وإنفعالاتي العميقة وهي صور من داخلي وهي أصدق ما يمكنني التعبير عنه". وتتحدّث فريدا عن معرضها الأوّل فى نيويورك عام 1938 حيث عرضت 25 لوحة باعت منها 12 ثم تعرّضت بعد ذلك لمعرضها الذي أقيم فى باريس والذي أشرف عليه الكاتب الفرنسي السّوريالي الشهير " أندريه بريطون" وتختم فريدا رسالتها قائلة:" واهتمّ النقد بأعمالي فى باريس، وإقتنى متحف اللّوفر إحدى لوحاتي" .ونقرأ فى حاشية الرسالة الملحوظة التالية:" فريدا كاحلو لم تحصل على هذه المنحة قطّ" فى رواية لإلينا بونياتوسكا تحكي الرّوائية المكسيكية المعروفة " إلينا بونياتوسكا" فى رواية لها مستقاة من واقع حياة فريدا كاحلو قصّة الحبّ الذي جمعت بين فريدا ودييغو ريفيرا ، وجاءت هذه الرّواية على لسان فريدا وهي تخاطب دييغو : " أنظر إلى عيوني لقد أضناهما السّهاد ، إنني أكاد لا أنام ،بل إنّني لم أعد أتذوّق طعم الكرى أبدا ،إنّي أقضي الليالي وأنا فى حالة قلق مستديم ،إنني أستقبل إشارات لا يشعر بها الآخرون ، أنظر إلى أناملي المثقلة بالخواتم ، إنني أقبل هذه الأنامل لأنّها وحدها لم تخدعني ، إنها تنفّذ ما يأمرها به عقلي ووجداني فى حين خانني جسمي كله، إنني حبيسة هذا الجسم اللعين منذ ستّ سنوات ، هذه الأنامل هي التي ضفرت شعرى الطويل الفاحم ، وزرعت فيه الزهور ، هذه الأنامل هي التي رسمت دييغو، وكلابي ، وإجهاضي، والخادم الهندية الأصلية ، وأختي، وحاجبيّ المعقودين ، بهذه الأنامل رسمت شفتاي،،أشفاري، إرهاقي،والدوائر الزّرقاء حول عيوني، ولادتي،أحلامي، دمي، دم دمي، عندما كنت تغازلني قال لك والدي وقتذاك: " أهجرها.. فإنّ الشيطان يسكنها ..وقد صدق"..!. وهكذا تسترسل بونياتوسكا فى سرد قصّة حياة فريدا فى سنواتها الأولى، وعلاقاتها بوالدها والمحيطين بها وأختها ماتيلدي الأكبرمنها سنّا ،والتي ساعدتها على الفرار مع الرجل الذي أحبّت ،وعند حادثة السّير التي غيّرت مجرى حياتها وأقعدتها ممّا جعلها تمتّن علاقاتها مع ذاتها ومع نفسها وريشتها وعالمها الداخلي الرّهيب، وعن زواجها من دييغو ، وغرامياتها عندما كانت طريحة الفراش ، وهكذا تصل فريدا إلى تاريخ رحيلها عن هذا العالم الذي رمى بها فى غياهب برودة المستشفيات، وبراثن المرض اللعين، والمعاناة والآلام المبرحة . وتختم هذه السيرة الذاتية القاتلة : هذه المرأة التي ترون مثقلة بأزهار القرنفل، والخواتم الذهبية فارقت الحياة فى 14 يوليو 1954 وعادت إلى الثرى وتلاشت معها ألوانها ، وذبلت أزهارها ، وإمّحى إحمرار أظافرها، وخبا بريق عيونها ، وحاجبها الوحيد الممتدّ على جبهتها كجناح غراب ، شاربها الخفيف ، شعرها ، دموعها الحرّى السّاخنة ،عظامها المكسورة ، عكّازها، سجائرها ، قيثارتها، ريشتها، مرآتها، الملصقة فى سقف حجرتها، هذه المرأة التي ترون قد لا تكون فريدا الحقيقية، بل ربما كانت فريدا المعكوسة فى المرآة..!. منزل فريدا ودييغو : متحف دائم فى حيّ يسمّى " المنظر العالي" بمدينة مكسيكو يقع منزل فريدا وزوجها دييغو ريفيرا ، وقد شهد هذا المنزل قصّة حبّها العنيف الذي كاد أن يضرم نيران الغيرة المتأجّجة المشتعلة فى قلبيْ العاشقين المتيّمين ، كما شهد لحظات سعادة وامضة ولحظات خلق وإبداع ، والغريب أنّ معظم الرّسومات التي خرجت من هذه الدار تعود إليها واحدا تلو الآخر، خاصّة بعد أن قرّرت الحكومة المكسيكية تحويلها إلى متحف دائم يضمّ العديد من أعمال هاذين الفنانين العبقريين. وأغرب قصّة بل وأطرفها فى هذا الشأن هي قصّة لوحة كان قد رسمها الفنان دييغو دي رفيرا عام 1934 تعود لطفلة كانت تدعى " خوانيتا روساس" كان دييغو وفريدا قد ألحقاها بهما للمساعدة فى الأعمال المنزلية ، وقد تكرّر وجه الطفلة فى أعمال الفنانين الرّاحلين وهي ذات عينين نجلوين ، وملامح شرقية واضحة ، فقد ظلت هذه اللوحة تتنقّل من من مالك إلى آخر داخل المكسيك وخارجه حتى وقعت فى يد المهندس المكسيكي " لويس فلوريس" فاشتراها وقدّمها هدية للمعهد الوطني للفنون الجميلة فى المكسيك الذي قرّر بدوره وضعها فى نفس المكان الذي رسمت فيه أوّل مرّة ،أيّ فى منزل (معرض) فريدا ودييغو الدائم..!. لم يكن فى إمكان أحد منذ عقدين من الزّمان التكهّن بأن الرسّامين المكسيكيين سوف تقارب أسعار لوحات الواحد منهما مبلغ الثلاث مليون دولار، بل لو كان أحد من النقاد قد قال ذلك وقتئذ لضحكوا عليه ورموه بالخبل والهذيان ، إلاّ أن هذا هو ما حدث، خاصّة فيما يتعلق بأعمال فريدا كاحلو وزوجها دييغو دي ريفيرا بالذات. وقد بدأ الفنّ التشكيلي الأمريكي اللاّتيني يشقّ طريقه نحو الشهرة العالمية الواسعة بواسطة هؤلاء الرسّامين الأوربيين الذين عاشوا أو أقاموا فى أمريكا اللاتينية مثل " فرناند ليغر" أو الكاتب والفنان الفرنسي " أندريه بريطون" وسواهما من الفنانين .يضاف إلى هؤلاء المواطنون الأمريكيون اللاتينيون الذين عاشوا فى أوربا أو الذين كان لهم إتصال وثيق بالرسّامين الأوربيين مثل " روبرتو ماتا"، أو " ألفريد لام" وغيرهما، كما يرجع سبب الإقبال على الفنون التشكيلية الأمريكية اللاتينية إلى زيادة الهجرة من هذه البلدان نحو الولاياتالمتحدةالأمريكية . ويضاف إلى فريدا ودييغو ممّن حققوا شهرة واسعة فى أمريكا بالذات من المكسيكيين " روفينو طامايو" و" سكيروس" و" بيدرو كورونيل" ،وجميع هؤلاء بيعت لوحاتهم بأسعار قياسية خارج بلادهم مثلما هو الشأن بالنسبة لروبيرتو ماتا، و خوسّيه ماريا فيلاسكو، وكلاوديو برافو ، ومع ذلك ظلت لوحات فنانتنا فريدا وزوجها دييغو تحتل مكان الصّدارة من حيث إرتفاع أسعار هذه اللوحات فى الولاياتالمتحدةالأمريكية بالخصوص ، ويكفي التذكير فى هذا الشأن أنّ لوحتين إثنتين لريفيرا هما" بائعة الورد" و" إمرأة البجع" قد فاق سعرهما الثلاثة ملايين دولار منذ ثلاثة عقود، ولا شكّ أنّ سعر هاتين اللوحتين قد أصبح اليوم أعلى، وأغلى،وأثمن من ذلك بكثير..!. وقد تلقّف الفنّ السّابع الحياة المريرة، والمتقلّبة، والجامحة لفريدا حيث قامت الممثلة المكسيكية المولد، واللبنانية الأصل الشهيرة "سلمىحايك" بتقمّص وتجسيد شخصيتها، وحياتها،ولوحاتها،وصراعها ، ومكابدتها، ومعاناتها،وإبداعاتها . كما كانت المخرجة جوليا تيمور، قد قدّمت فيلما ًعن حياة فريدا كذلك وسيرتها الذاتية المثيرة ،بعنوان "فريدا الحياة المتنافسة"،وكيف أنها جعلت نفسها إمرأة فريدة فى بابها ،تعيش في الخيال السعيد الذي لا يمتّ إلى واقعها الحقيقي التّعس بصلة محاولة أن تنسى أو تتناسى هذا الواقع المرّ، والعيش الكئيب ،وحياتها الصّعبة المريرة، والقاسية التي لم تذق فيها أو خلالها طعم السّعادة الحقيقية إلاّ لماما. *عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).