شديد سواد الشعر، شديد بياض الثواب ولا يرى عليه أثر السفر.. ذلك هو الوصف الشهير لأحد أقرب الملائكة الكرام إلى قلوب المسلمين والذي لا تحل العشرية الرمضانية المباركة دون أن يتذكره الكثيرون. إنه الملك المقرب جبريل عليه السلام، أمين الوحي والملك الذي رافق نبينا صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث وعشرين سنة، لم يهدأ بال قائد هذه الأمة ونبيها خلالها في الدعوة إلى الله وصد عدوان المشركين حتى لقيه ربه. وفي كل تلك المحطات كان الملك المحبوب جنبا إلى جنب مع نبي الله، في المعارك وفي لحظات مراجعة القرآن العظيم وحتى في الأوقات التي يجلس فيها نبي الإسلام مع أصحابه: ينزل الملك الكريم إليه في صورة بشرية ليعظ هذه الأمة ويعلمها دينها كما كان الحال في الحديث الأشهر الذي وضح حقيقة الإيمان والإسلام والإحسان الذي شرح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الشخص الذي كان يثير استغرابهم بسؤال النبي وتصديقه هو جبريل عليه السلام. تفاصيل هذه العلاقة التي دامت ثلاثا وعشرين سنة، وتفاصيل مواقف الملك الكريم طيلة تلك الفترة التي كانت من أشد الفترات قسوة على المسلمين كثيرة ويمكن الرجوع إليها في كتب الحديث والمراجع العلمية المعروفة لعلماء الإسلام. لكن في هذه الكلمات المعدودة، لا يتسع المجل للحديث عن كل ذلك، كما يصعب تعداد عدد المرات التي ورد فيها ذكر الملك الكريم في القرآن أو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة أخرى فكتب المسلمين زاخرة بالتفاصيل التي تنتظر فقط من ينفض عنها الغبار من أمة محمد.
لكن الذي يعنينا في هذه الكلمات، هو تنسم تلك الذكريات العطرة مع جبريل عليه السلام، والسبب هو أن الأرض ومن عليها تتكرم بزيارة هذا الملك الكريم خلال هذه الأيام المباركة.. فبعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انقطعت علاقة هذا الملك المحبوب بالأرض، لأن دوره كان أمانة الوحي للأنبياء والمرسلين ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان خاتمهم.. وبانتهاء الأنبياء انتهى الدور الرئيس لجبريل عليه السلام على الأرض على الأقل فيما هو معلوم للعقل البشري القاصر، فالله وحده يعلم ما يلج إلى الأرض وما يعرج في السماء ووحده تعالى من يعلم أدوار كل مخلوق أين تبدأ وأين تنتهي. لكن العلاقة على كل حال ما تزال مستمرة، والقرآن يخبرنا بذلك حيث ينزل جبريل عليه السلام في العشرية الرمضانية المباركة، رفقة الملائكة الكرام يطوفون على الأرض وذلك معنى قوله تعالى بحسب تفاسير العلماء "إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر".. والروح هو جبريل.. فكيف ترانا أهل الإسلام نستقبل هذا الوفد الملائكي الكريم؟.. الوضع بائس: الفقر ضارب أطنابه في هذه الأمة التي يعيش فيها مئات الملايين من الناس تحت خطر الفقر (أقل من 10 دراهم في اليوم الواحد)، الظلم طال الصغار والكبار في مختلف المجالات، الجهل باتت تزكم رائحته الأنوف.. وفوق هذا وذاك مجاهرة بالمعصية ودعوات للتطبيع مع الشذوذ الجنسي والإفطار العلني في رمضان، والدعوة إلى علمنة الحياة وإقصاء الدين الذي تكلف جبريل عليه السلام بإيصاله إلى أهل الأرض عبر الأنبياء عليهم وعلى نبينا صلوات من الله ورحمة.. وهذا مجرد غيض من فيض.. كيف؟ إذن هو سؤال يقض المضاجع ويحتاج للسمو بالنفس إلى الآفاق العلى لإدراك معانيه وبحث أجوبته، فلا تختلط بخشاش الأرض الذي يركز الضبابية في النفوس والعقول فتتيه وتعيش حياة القطعان التائهة.. في انتظار ذلك، لا يسعنا إلا أن نخاطب الملك الكريم بالقول: السلام عليك يا جبريل، والأمل كل الأمل أن تزورنا في العشرية القادمة إن شاء الله وحال هذه الأمة إلى خير.. ""
خلال هذه العشرية الرمضانية المباركة التي تضم بين طياتها ليلة خير من ألف شهر، تذكرت ما أخبرنيه طفل نبيه قبل نحو 12 عاما من أنه رأى شيئا في المنام يود قصه علي.. كنت في العطلة الصيفية أيام الدراسة الجامعية قد ألفت الحديث إلى بعض الأطفال من رواد مسجد حينا، وبدأنا نتبادل بيننا القصص وكتب الأطفال وكان الطفل هادئا عاشقا لمعرفة كل ما يستشكل عليه في دراسته والكتب التي يستعيرها. الرؤيا التي قصها علي الطفل وقتها هي أنه رأى في منامه السماء غائمة وسرعان ما انطلق منها ملك كريم شعره أسود وثيابه بيضاء.. وقد ألقي في روعه أنه جبريل عليه السلام.. والوصف الذي حدثني الطفل عنه بالفطرة يتطابق مع الأحاديث الصحيحة الواردة عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.