في الصورة مشهد من مسلسل "هدوء نسبي" مع اقتراب شهر رمضان المبارك من نهايته، بات ممكناً القول إن الملاحظة الأبرز في المشهد الرمضاني التلفزيوني لهذا العام أن المنافسة، المعلنة والخفية، بين الدراما السورية والمصرية تعرضت لسلسلة من التحولات والتغيرات. لم تبدأ هذه التحولات كلها في هذا الموسم، بل توضحت الصورة أكثر حالياً. "" في السابق كان الحديث يدور عن الفرق في الصرف الانتاجي على الدراما وعن الصورة المتقنة في الدراما السورية، مقابل ضعف التمويل الانتاجي وقلة الاهتمام بالصورة في الدراما المصرية عموماً. ولكن مع تداخل الانتاجين في السنوات الخيرة، صار من الصعب الحديث عن دراما مصرية صافية بعد دخول الممثلين والمخرجين والتقنيين السوريين إلى سوق التلفزيون المصري. لقد صنع الدخول السوري إلى الدراما المصرية تغيرات واضحة على صورة المسلسل المصري في عين المشاهد العربي، إذْ بات سهلاً علينا أن نردّ جزءاً كبيراً من نجاح مسلسل "ابن الأرندلي" ليحيى الفخراني إلى المخرجة السورية رشا شربتجي، والحال نفسه ينطبق على مسلسل "الأدهم" من بطولة أحمد عز الذي يُخرجه باسل الخطيب، ومسلسل "علشان ما ليش غيرك" لإلهام شاهين الذي يُخرجه رضوان شاهين. حيث نلاحظ أن حركة الكاميرا وزاوية التصوير والمونتاج ... تحمل كلها بصمات ونكهة سورية اعتدناها كمشاهدين. لم تصبح هذه المسلسلات الثلاثة مسلسلات سورية بالطبع، ولكن التقاليد الدرامية المصرية فيها خضعت لمقترحات جديدة فصارت هذه التقاليد أكثر حركة وتنوعاً وإقناعاً، وذلك بغض النظر عن القيمة الفنية والدرامية لهذه الأعمال ومدى الاضافة التي تحققها. الحديث هنا يدور فقط حول الاتقان والعمق والإقناع الفني. تقودنا هذه الملاحظة إلى فارق جوهري واضح بين الدرما السورية وشقيقتها المصرية. لا يتحدث أحد تقريباً عن هذا الفارق الذي لم يعد يتعلق بنوعية الإخراج أو أداء الممثلين أو بالبذخ الانتاجي. الفارق يتمثل في أن أغلب الأعمال المصرية التي تقدم في السنوات الأخيرة لا ترسم صورة قريبة عن الواقع المصري الحقيقي والحياة المصرية الفعلية، بينما تقوم أغلب المسلسلات السورية على قراءة واقعية للحياة في سوريا. لقد سبق أن شاهدنا أعمالاً مصرية كان الجانب الروائي والسردي قائماً على قراءة دقيقة وحارة للواقع والتاريخ. ألم نقرأ المنعطفات الأساسية في التاريخ المصري الحديث من خلال مسلسل "ليالي الحلمية" بأجزائه الخمسة؟ ألم نرَ قراءات أخرى للواقع المصري في أعمال أخرى. ولكن الوضع تبدل مؤخراً، خصوصاً مع هجرة نجوم السينما إلى التلفزيون بعد سيطرة الكوميديين الجدد على السينما المصرية. هكذا، صارت المسلسلات تُكتب على قياس النجم أو النجمة. وغالباً ما يكون السيناريست مطالباً بكتابة سيناريو ملائم للنجم بصرف النظر عن أي هاجس تقني أو سردي أو واقعي آخر. هذا ما شاهدنا في الأعمال التي قدمتها ناديا الجندي ونبيلة عبيد ويسرا والهام شاهين وليل علوي وسميرة أحمد وفيفي عبده ... من النجمات، والأعمال التي قدمها نور الشريف ويحيى الفخراني ومحمود عبد العزيز وحسين فهمي ... من النجوم. طبعاً هناك فروقات طفيفة بين الأعمال التي قدمها هؤلاء، بعضها مكتوب بطريقة جيدة وبعضها ساذج وخفيف، ولكن الصفة الغالبة عليها هي أنها مصنوعة على قياس البطل أو البطلة أما الباقي فيدور حولهما ومن أجلهما. وهذا يعني أن هذه الأعمال تُدير ظهرها ببساطة للواقع. ما يهمّ هنا هو إرضاء النجوم. المخرج والمنتج، ومعهما فريق العمل كله، يعملون في خدمة البطل. في المقابل، يمكن ببساطة ملاحظة أن الأعمال السورية لا تكترث بالنجومية. هناك ممثلون ذوو أداء باهر. ولكنهم يحبون صفة أنهم ممثلون. لنأخذ الممثل تيم حسن كمثال. فقد لعب دور الملك فاروق قبل عامين (إخراج حاتم علي)، ثم أدى دور شاب أزعر في حي من أحياء العشوائيات الدمشقية في مسلسل "الانتظار" (إخراج المثنى صبح) العام الماضي، واليوم يؤدي دور غارسون في مطعم وسائق تاكسي في مسلسل "زمن العار". نعود إلى فكرة الواقعية وترجمتها درامياً في الأعمال السورية. ولنأخذ ثلاثة أمثلة هي: "زمن العار" (كتابة: حسن يوسف ونجيب نصير/ إخراج: رشا شربتجي) و"هدوء نسبي" (كتابة: خالد خليفة/ إخراج: شوقي الماجري) و"سحابة صيف" (كتابة: إيمان السعيد/ إخراج: مروان بركات). ما نشاهده في هذه الأعمال ليس مقاربتها للواقع اليومي أو التاريخي فقط، بل هناك راهنية طازجة تفوح من "زمن العار" و"سحابة صيف"، وقراءة روائية ودرامية مميزة لاحتلال العراق عام 2003. يسرد "زمن العار" تفكك عائلة سورية وسط تغيرات قاسية وطاحنة شهدها المجتمع السوري في السنوات الأخيرة. هناك مذاق واقعي مقنع في كل مشهد من مشاهد هذا العمل الذي يحفل بطاقات أدائية مبهرة لسلافة معمار وتيم حسن وبسام كوسا وخالد تاجا وقمر خلف ... وهو أداء يتغذى أولاً وأخيراً من قوة النص الدرامي. النص هنا هو احتياطي هائل وخصب للممثل والمخرج للوصل إلى نتيجة درامية مقنعة للمشاهد. الأمر نفسه ينطبق على "سحابة صيف"، فرغم كونه أول عمل للكاتبة إيمان السعيد إلا أنها نجحت في رصد عالم الأحياء العشوائية. والجديد أن هذا العمل خلط معطيات واقعية عديدة، إذ جمع في الحي العشوائي نفسه سوريين وعراقيين وفلسطينيين عبر قصص صغيرة ومتشابكة مكتوبة بطريقة معبرة وحارة، وسط أداء ملفت من بسام كوسا وسلوم حداد وسمر سامي وديمة قندلفت وأحمد الأحمد ... وغيرهم. ونصل أخيراً إلى "هدوء نسبي" الذي نشهد فيه خروج الدراما السورية إلى أفق أوسع بكثير من الواقع المحلي، إذْ يخوض الروائي خالد خليفة والمخرج شوقي الماجري مغامرة كبيرة بالتصدي لعمل إشكالي ومتعدد الطبقات والقراءات والتأويلات السياسية. ولعلها المرة الأولى التي يجتمع فيها ممثلون وخبرات (سورية وعراقية وتونسية ولبنانية وأميركية وفرنسية وفلسطينية ...) في عمل واحد. ما ينبغي إضافته هنا هو أن الدراما السورية لهذا العام حققت اختراقاً جديداً وهو تقديمها لممثلين عراقيين في "سحابة صيف" و"هدوء نسبي"، مانحة الفرصة للمشاهد العربي العادي الذي لا يعرف شيئاً تقريباً عن الدراما العراقية بسبب الوضع الخاص الذي يسود في العراق. الخلاصة أن التنافس بين الدراما السورية والمصرية لن يعد مرهوناً فقط بالصورة والانتاج، بل بات المذاق الواقعي - الحاضر في الدراما السورية والمغيّب عن الدراما المصرية- هو الذي يلعب الدور الحاسم في التمييز بينهما. وفي هذا السياق، هناك تفوق واضح للدرما السورية.