يشكل الاحتفال برأس السنة الأمازيغية ينَّايْرْ مناسبة للتعبير عن الفرح والسرور والسعادة والتأمل في مواجهة الأزمات، التي تعد بدورها، عنصرا من عناصر دورة الحياة، ولقد تم تعزيز مكانة هذا الموروث بإقراره عيدا وطنيا من طرف صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله. فاحتفال الأمازيغ بهذه المناسبة، في عموم شمال إفريقيا، هو انعكاس للمكانة البارزة التي تحتلها القيم الثقافية والاجتماعية، في إطار الانسجام بينها وبين الممتلكات المادية. وتبقى قيمة التقاسم هي التي تشترك فيها شبكة القيم المشار إليها، خاصة في السياق الاجتماعي والثقافي الراهن. من هذه القيم، قيمة الاعتراف بأهمية الأرض في حياة الأفراد والجماعات، لما تقدمه من منتوجات وغلات تضمن استمرار الكائنات الحية فوق سطحها، وكذا قيم التضامن والتآزر والتعاون كقيم إنسانية مُثلى، من شأنها تقريب الأفراد والجماعات والثقافات والحضارات في ما بينها. التقويم الفلاحي: هناك إشارات نادرة بهذا الخصوص، بحيث أنه لم تسعفنا المصادر التاريخية إلا بإشارات مبهمة عن التقويم الفلاحي ببلاد المغارب، غير أن كتب الفلاحة وكتب الأزمنة والأنواء تحدثت بالتفصيل عن التقسيمات الزمنية للدورة الزراعية، وعن المعتقدات والطقوس المرتبطة بالسنة الفلاحية (العنصرة، السمايم، الليالي... إلخ)، ومن أشهر هذه المؤلفات "رسالة الأنواء" لابن البناء المراكشي (654 – 721 ه/ 1256- 1321 م) التي تعتبر مرجعا مهما للتقويم الفلاحي في المغرب والأندلس على حد سواء. حظي التقويم الفلاحي في شمال إفريقيا ببعض الاهتمام في الدراسات المونوغرافية والإثنوغرافية إبان الفترة الاستعمارية، وهو ما ساهم في توثيق جانب من التقاليد والممارسات الثقافية المرتبطة بهذا التقويم بعدة مناطق، في المغرب أو الجزائر أو تونس أو حتى لدى طوارق الصحراء الكبرى. ويعود الفضل لهذه الأبحاث في تحقيق تراكم معرفي حول رأس السنة الفلاحية الذي تطلق عليه عدة مسميات في بلاد المغارب، منها: "ءيضْ ن يناير" أو " إِخْف ن ءوسڭاس" أو " تبورت ن ءوسڭاس أو "حاكوزا" أو " أس نفرعون" عند أهل الشاوية بالجزائر. إن التقويم الزمني يعد من المميزات الثقافية للأمم والشعوب، لأنه يعكس رؤيتها إلى الزمن وسيرورته، فضلا عما يرتبط بهذه الرؤية من معتقدات وطقوس واحتفالات لها دلالاتها الرمزية لدى المجموعات البشرية. وفي هذا السياق، يتميز شمال إفريقيا بتقويم فلاحي ذي جدور تاريخية عريقة، بيد أن أصوله والتحولات التي عرفها عبر مساره التاريخي غير واضحة بالشكل المطلوب، وهذا شأن كل التقاويم الزمنية في الحضارات القديمة. منذ أواخر القرن العشرين اهتمت الحركة الثقافية الأمازيغية باحتفالات رأس السنة الفلاحية، واعتبرتها من الخصوصيات التي تبرز البعد الأمازيغي في الهوية التاريخية والحضارية لشمال إفريقيا، فعرفت منذ ذلك الحين برأس السنة الأمازيغية، وازداد إشعاع الاحتفال بها مع اعتراف دول مغاربية بالأمازيغية مكونا أساسيا لثقافتها الوطنية. بالموازاة مع هذا الاعتراف الرسمي وتزايد الاهتمام الشعبي بهذا التقويم، لا يزال التراث الشفهي -أو علم الفلك الشعبي كما يسميه البعض- من المصادر الأساسية للتقويم الفلاحي بربوع شمال إفريقيا، ومن تجلياته غنى الذاكرة الجماعية بترسانة من الأمثال والحكم حول المنازل الفلاحية ومختلف الأنشطة المناسبة لها على مدار السنة. علاقة بالأمثال والحكم، يشير الباحث الحسين بويعقوبي في دراسة "ءينّاير مدخل إلى دراسة التقويم الأمازيغي" (منشورات كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بأيت ملول، جامعة ابن زهر أكادير 2023، صفحة 98)، أن أسطورة العجوز و"ينَّايْرْ" تعتبر من الأساطير المشتركة بين مختلف مجتمعات شمال إفريقيا، بل واعتبرتها الباحثة بوليت كالاند بيرني "Paulette galand pernet" مشتركة في كل حوض البحر الأبيض المتوسط بمرويات مختلفة. وتحكي الأسطورة أن امرأة عجوزا كانت ترعى ماشيتها في اليوم الأخير من شهر "ينَّايْرْ"، وهو الشهر المعروف عادة ببرده الشديد وكثرة الثلوج، لكن هذه المرة خالف هذه القاعدة، مما جعل العجوز تستهزئ به مخاطبة قطيعها، الشيء الذي أغضب "يناير" حيث وصل يومه الأخير، وهو ما دفعه ليطلب من فبراير "فورار" أن يقرضه يوما، (وفي رواية أخرى عدة أيام) وهو ما كان، فأرسل: يناير بردا قارسا وثلوجا مما نتج عنه وفاة العجوز وقطيعها، وهذا ما يفسر كون شهر فبراير لا يدوم إلا 28 يوما، وأمام رفض "ينَّايْرْ" إرجاع اليوم المقترض من فبراير، ظل هذا الأخير يبكي، الشيء الذي جعل منه شهرا ممطرا...". الدلالات الأنثروبولوجية: تتجلى دلالة الاحتفال بالسنة الأمازيغية من الناحية الأنثروبولوجية في كونها دلالة على الهوية المرتبطة بالأرض، حيث يعبر الأمازيغ من خلال احتفائهم بالمنتجات الفلاحية وإعدادهم لأطباق تقليدية، تمجد تلك المنتجات، تيمُّنا بسنة فلاحية جيدة، يعبرون عن مقدار ارتباطهم بالأرض التي تهبهم هوية الانتماء للوطن، كما يعبرون من جهة أخرى عن دلالة العراقة التاريخية والعمق الحضاري لتجذرهم في شمال إفريقيا، حيث يرمز التقويم 2975 إلى حدث زمن اعتلاء الملك الأمازيغي شيشونق عرش مصر، (الأسرة الثانية والعشرون في سلسلة الأسر الحاكمة الفرعونية) والتي دام حكمها من سنة 950 قبل الميلاد إلى سنة 730 قبل الميلاد). كما تتجسد القيمة الرمزية لهذه الاحتفالات على مستوى اللغة والثقافة الأمازيغيتين، حيث يتم نشر الشعور بالانتماء إلى الهوية الأمازيغية وإلى الأرض المغربية، كما تسمح لنا هذه المناسبة الاحتفالية بتعميم ونشر الكثير من القيم الأصيلة كما أسلفنا مثل قيم التضامن والتآزر التي هي قيم إنسانية كونية، والتي من أهمها الحفاظ على العلاقة الفلاحية بالموارد الطبيعية من أرض وماء باعتباره من الموارد الطبيعية الهامة، التي تضمن دوام واستمرار الحياة البشرية، وما يتعلق بهذه المادة الحيوية من أنشطة اقتصادية واجتماعية وغيرها. إن الاحتفال ب "نَّايْرْ"، أو بالسنة الأمازيغية يرمز كذلك إلى الدعوة إلى الحفاظ على الماء والنبات والمزروعات، التي تشكل مصدر الأطباق التقليدية كالكسكس الذي صنف في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، والذي يعتمد على مهارات تضطلع فيها المرأة بدور أساسيّ. ولا يقتصر دور المرأة في هذا السياق على عملية تحضير الكسكس واستهلاكه، بل يمتد ليشمل أيضا إحياء منظومة القيم والدلالات المتعلقة بهذا الطبق والحفاظ عليه بحسب موقع اليونسكو، كما تشمل أطباق ينَّايْرْ، وجبات أخرى تقليدية تبدع في إعدادها النساء من قبيل بركوكش وتّاكَلاَّ وأركيمن، التي تعدُّ بهذه المناسبة، هي رسالة إلى الإنسانية، خاصة في الظروف الراهنة التي تعرف ندرة كبيرة في الماء والغذاء يجعل البشرية تدق ناقوس الخطر. ولعلَّ الاحتفال برأس السنة الأمازيغية يعتبر حاليا رسالة إلى الإنسانية، في موضوع البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية وحمايتها من التلوث، والاستفادة من حكمة الأجداد في التدبير. عندما نتحدث عن الاحتفال بالسنة الأمازيغية أو "ينَّايْرْ"، تتبادر إلى ذهننا مجموعة من الطقوس التقليدية التي تصاحب هذه الاحتفالات المتجذرة في الثقافة المغربية، فمنها المرتبط بالزواج حيث تحج العرائس في مناطق عديدة وخصوصا في القرى النائية إلى البحيرات والعيون في أول أيام الزفاف وذلك للاستحمام تبركا وتفاؤلا بالماء. ومن جهة أخرى، يتم الاحتفال برأس السنة الأمازيغية في بلدان شمال إفريقيا والمغارب وجزر كاناريا بوصفها مناسبة ارتبطت منذ أقدم العصور بالحياة الفلاحية لشعوب المنطقة، وتعكس رغبة السكان في استقبال سنة فلاحية جيدة بمحاصيل وفيرة، كما يعتبرون هذه الفترة (يناير) هي مرحلة تتنفس فيها الأرض وتعرف انتقالا تدريجيا تتهيأ خلاله لاستقبال فصل الربيع، من جهة أخرى فالاحتفال يتبع تقويما يعرفه الفلاحون، وهو واحد من أقدم التقويمات التي عرفتها الحضارات العريقة. خاتمة على سبيل الختم يمكن القول: إنه نظرا لقلة الأبحاث والكتابات التي تناولت هذا الموضوع بالبحث والتمحيص، فإن مجال البحث مدعو إلى التنقيب الأنثروبولوجي وكذا الأثري، لتوضيح الرؤية وإضاءة هذا الموضوع بمزيد من المعلومات الشافية والكافية، لتفسير هذه الظاهرة المرتبطة بشمال إفريقيا، خاصة لدى القبائل الأمازيغية. يجدر بنا أن نذكر بعض المقترحات المرتبطة بالاحتفال بيناير، يمكن أن تكون رافعة للتنمية، أفادنا بها الباحث في الثقافة الأمازيغية المحفوظ أسمهري، منها على سبيل المثال لا الحصر: – كي تستفيد المناطق النائية من هذا الحدث لا بد من ربط احتفالات السنة الفلاحية الأمازيغية بالدورة الاقتصادية، على غرار ما نراه في المناسبات الدينية وغيرها. – على مستوى القرى، يمكن للتعاونيات السياحية والفلاحية المدرة للدخل، وأيضا لمؤسسات الإيواء السياحي في الجبال، أن تبدع طرقا جديدة تجذب المغاربة والأجانب إلى البادية من خلال إطلاق عروض سياحية خاصة برأس السنة الأمازيغية. – ربط الاحتفالات بما هو أصيل في البادية المغربية، كمركز للأنشطة الفلاحية، وذلك بإعداد أطباق تقليدية تراثية، وهذا لا يتأتى إلا بمبادرات إبداعية من طرف الجمعيات والمؤسسات السياحية والأسر المستقبلة عن طريق دعمها (les familles d'accueilles) التي يمكنها تسويق هذا التراث اللامادي العريق الذي يتميز به شمال إفريقيا عامة.