تظل سمعة الأمم والمجتمعات والدول في ترق مصانة عن الابتذال ما دامت تحترم مقتضيات التخطيط المحكم لما تتغياه في حالها ومستقبل أمرها، حتى إذا استحال أمرها إلى التخبط واستحكمت الفوضى والعشوائية والارتجال في سياستها حكم على القائمين على شؤونها بالحمق والسفه في الأقل، وبالعدوان والظلم على من تشملهم رعايتهم في الأكثر، لأن السياسة في عمومها رعاية الحقوق وصونها ، والابتذال عدوان على الحقوق الإنسانية ، وهو دركات لا تنتهي إلى غاية. "" وليس أضر بحقوق المجتمعات من العبث بنظامها التعليمي والتربوي، لأنه عبث برأسمالها الرمزي والمستقبلي،وهو في الوقت ذاته سفه لما يجمع العابث بماله والعابث بهذا الرأسمال الرمزي من وجوه الشبه، وهو لعب بالنار من قبل جماعات الخبراء النوكى أو الأطفال الصغار وإن عدوا في الظاهر من ذوي الرئاسة والوزارة والاعتبار. وقد رأينا أن سياسة التربية والتعليم في بلادنا صائرة إلى الابتذال مغرقة في الاختلال لا يكاد يفارقها الاعتلال، وصيرورتها إلى الابتذال وهو عدم الصيانة بسبب ما لمسناه من حرص على الاستعجال في قضية تحتاج للإستمهال، وعدم الصيانة عام تندرج تحته صور شتى من العبثيات في الشأن التربوي التعليمي، وفي الأصول أعمال المكلفين منزهة عن العبث، والقوم رفع عنهم التكليف. وحمق القائمين على الشأن التعليمي والتربوي في بلادنا لا نهاية له، وهو ألوان وأطياف، ليس آخرها جوقة البرنامج الاستعجالي الهزلي الفارغ المفرغ من كل قيمة إلا التسابق على ماله المرصود للنهب المهذب والمنظم، نهب وسلب يقوم عليه معلمون خبراء في الخواء ودهاقنة مختصون في تيسير طرق الوصول لمال الوزارة السائب. إن أحمق الحمق وأضل الضلالة ما خططته وزارة التربية والتعليم من مخطط ذهبت فيه تحت سياط تقارير البنك الدولي إلى الإجهاز على البقية الباقية من نظامنا التعليمي والتربوي، إذ الإصلاح كما يقول ريتشارد هايكمر الذي تمليه دوائر الهيمنة الخارجية كالديمقراطية التي حملتها المدافع إلى العراق، ومقدار التحسن في هذا الإصلاح الخارجي بمنزلة الخراب الذي خلفته تلك المدافع الهمجية الغاشمة. ولقد اجتمع في هذا المخطط الاستعجالي صفتان:الحمق والعمى، وهما صفتان رشحتا عن المخططين المختصين، وإنني اتحسب أن المرء قادر على هداية الأعمى إذا كان صاحب بصيرة، أما إذا انضم إلى العمى الحمق وهو سلب البصيرة فذلك جهد البلاء، وهو حال المخطط الاستعجالي القائم على المقاربة الكمية المحاسباتية التقنوية على حساب المقاربة الكيفية، لأن طبيعة العجلة والاستعجال أن يتعطل العقل عن النظر في المآلات ، ويَخِفَّ ، والخفة من الحمق فيمضي بحسب ما يمليه عليه عامل الوقت المنصرم الذي لم يكن له اعتبار في يوم من الأيام عوض عامل الحكمة المتعقلة. مخطط تتنصل فيه الدولة المحترمة من مسؤوليتها في توفير التعليم والتربية المجانية لجميع المواطنين، وفي المقابل تفتح المجال لصيغ مستحدثة لتشجيع القطاع الخاص بكافة الامتيازات لامتصاص ما بقي من قوى هذا الشعب المجهل والمفقر، وتقترح في المقابل نحو مزيد من الانفلات من مسؤوليتها صناديق لدعم التعليم المدرسي يمولها الفاعلون والمجتمع المدني وأشباحه؟؟؟ فهل هناك ضحك على الذقون أكثر من هذا؟ من آيات الحمق في المخطط الاستعجالي ما بادر إليه القائمون على الشأن التربوي من إعلان عن توظيف مباشر من غير تكوين لآلاف من حملة الشواهد الجامعية، وشأن علة الأحمق وعذره أن يكون أفضع وأكبر من زلته، وعذر الوزارة أن القطاع محتاج إلى كل هذا العدد من الأساتذة لتغطية الخصاص، خصاص لا ينشد الجودة والإختصاص،وكل قطاع التربية –كما هو معلوم- يشكو الخصاص في كل شيء. فهل كان هذا الخصاص غير معلوم عند عصابة الخبراء حتى فاجأتهم السنة العجفاء الهاجمة عليهم بعد سنين يوسف، أم أن الخصاص كان معلوما ولكنه لم يكن يقض مضاجع القوم فيفكروا فيه لأن خبرتهم تقوم على معالجة آنية فورية لمسائل يفكر فيها العقلاء لسنين ذوات العدد؟ أم يا ترى هي قضية حادثة ولكل حادثة حديث؟ فننتظر الحوادث وما أكثرها لنطلق العنان للحديث والهدر واللغط البيداغوجي ولمذكرات تصل متأخرة عن مواعيدها كما هو حال قطاراتنا. إن المرء ليتساءل عن جدوى آلاف الأقسام التابعة لوزارة التربية الوطنية التي يعلق على أبوابها ما يفيد أنها تعالج قضايا التخطيط بالأرقام، إنها أبواب خشبية تخشب سياسة هذه الوزارة ، وهي خير دليل على ما تخبئه الأبواب من تخصصات، وعلى ما تخبئه الدوال من مدلولات. إن التخطيط التربوي الجيد يفصح عن حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الاحتمال والتفطن لدقائق البرامج والمناهج،أما ما يلمسه قارئ المخطط الاستعجالي فإنه خلاف ذلك كله ونقيضه. إذا كان من حق خريجي الجامعات على الدولة أن تضمن لهم حق الشغل حين تربط دوائر التكوين والعلم بدوائر الشغل والوظيف، فإنه من حقهم عليها أيضا أن تمتعهم بتكوين يتناسب وخصوصية المجال الوظيفي الذي تحتاجهم فيه، وإلا فإن توظيفهم على النحو الذي نراه يزيد من تفاقم الوضع المتردي للقطاع ويغرقه في وحل الرداءة والعشوائية، وهو إن حل المشكلة العددية عند عقول الأطفال العابثين في الوزارة، مشكلة الأرقام التي تحتاجها الأقسام فإنه يوسع دائرة المشكلة النوعية في عقول الكبار، فيصير حال الطالب الذي يستلم القسم من غير تكوين بيداغوجي حال من يباشر علاج المرضى في صفة طبيب من غير أن يكون له من المعرفة بالطب العملي إلا ما سمع عنه أو رآه في سني عمره الأولى. أو الطالب الذي يبادر برسم تصاميم لبنايات وبيوت تأسيا بالمهندس ،كيف يكون حال من يسكن مثل هذه المساكن، إذ التهديد بانهدام المباني قائم في كل وقت وحين،إذ إن المعرفة العالمة غير المعرفة التعليمية كما هو مسطر في أول درس من أبجديات التكوين. ابتذال المخطط الاستعجالي يكمن فيما ذهب إليه من إجراءات يعلم الخاص والعام أنها لن تحل مشكلة الخصاص، لأن القطاع ينخره سوس الفساد من مكتب وزيره إلى أدنى قسم في مصالحه النيابية، فالحديث على نظام جديد لتوظيف الموارد البشرية: النظام التعاقدي الجهوي؛ و إدخال مفهوم المرونة في حركية المدرسين (المدرس المتحرك) و اعتماد مبدأ المدرس المتعدد الاختصاصات و فرض ساعات إضافية إجبارية على المدرسين خاصة بالتعليم الثانوي بسلكيه بغية " الوصول إلى أكثر من 1.36 مليون ساعة عمل إضافية في السنة بغرض توفير ما يضاهي 980 منصب مالي بالثانوي الإعدادي و 795 منصب مالي بالثانوي التأهيلي" الخ، كلها إجراءات ستنتهي إلى التعطل لأن واقع رسم الخريطة تتحكم فيه لوبيات الفساد والإفساد، والحال لن ينتهي إلا إلى مزيد من الفائض بالمدن، وفراغ على الدوام بالقرى والأرياف، لأن الوزارة لم تضع في المقابل أي تحفيز لبقاء الناس خارج الحواضر حتى تستقر وضعية الموارد البشرية نسبيا. إن الوضع ينذر بكارثة نوعية يتحمل وزرها الوزير المشغول على الدوام بأشياء مهمة غير التعليم والتربية، وحاشيته من الخبراء ومن يعنيهم أمر التربية والتعليم ممن هم شركاء في تدبير القطاع المريض، ولئن كان حا ل تربيتنا وتعليمنا لا يبشر بخير-لا كما تطلعنا بذلك تقاريرهم الدولية المستعلية المسمومة- بل بما يراه ويعاينه الجندي المباشر في الميدان،المعلم، الخبير الأول والأقدر على تشخيص المرض وتعيين دوائه، فإن الحكمة تخبرنا بأنه ما تسربت العجلة والاستعجال لميدان التربية والتعليم إلا وعادت عليه بالهلكة والتخريب، فإن مجال تربية الإنسان وتعليمه أحوج المجالات للتأني والتؤدة ، وإن الأمم لتأخذ العبرة من اخطائها مهما كانت،وتأخذ نفسها بالمصارحة والمكاشفة والنقد حتى تستقيم سياستها ويصح منهجها،أما ما نراه من زيف شعارات التعميم والجودة والتقنية والانفتاح وتحرير المبادرات منذ عشرات السنين فأكاذيب يفضحها ضوء الصباح، مثلها في ذلك شعارات سلامة انتخاباتنا من التزوير والتبذير و"سير" و"سير".... إن بعض الحمق أهون من بعض، وإذا كان القرار القاضي بالتوظيف المباشر على درجة من الحمق لا يستهان بها لاستهانته بالتكوين والتدريب وهما عماد المهارة في الدول التي تحترم نفسها، فإن أبعد منه ما يروج في دواليب الوزراة من إغلاق لمراكز التكوين أو دمج بعضها في بعض في أفق الاستغناء عنها بالمرة، وعوض أن تنظر الوزارة في أمر إصلاح أوضاعها واوضاع القائمين عليها وإنصاف الدكاترة المعلمين بها الذين ما يزال عدد كبير منهم لا يجد معنى للشهادة العليا التي حصل عليها، لأنها في المراكز بلا معنى، وستبقى بلا معنى مثلما هي شهادات كثيرة بلا معنى مادام المتحكم في قياد الأمور جماعات المتخلفين ممن تشكل هذه الشواهد عندهم عقدة نقص يواجهونها بالحصار وحصار أصحابها حتى يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون خلافا لمنطق المعرفة السوي.فالشواهد العليا في هذا البلد صارت بضاعة في هذه المراكز وفي القطاع كله مضاعة،لما أصابها من الكساد، إذ صار العلم عارا على حامليه، والاجتهاد شينا لأهليه، وإلى الله المشتكى. عوض النهوض بأدوار هذه المراكزوتطويرها، نسمع عن عصابة المخططين ما مفاده الإجهاز على هذه المراكز ومدارس التكوين لفتح الباب أمام التسيب بامتياز،فإن في الديدان من لا تحسن السير والدب إلا في الظلام، وفي الحشرات من لا تستطيع أن تصطاد إلا في الماء العكر. لست أدري لأي سبب لا تستعجل الوزارة في حل ملفات أفواج وجيوش أصحاب الحق في الترقيات منذ سنوات، ولم لا تستعجل في تسريح آلاف الأشباح من ذوي السند العالي؟ ولم لا تستعجل في تحرير القطاع برمته من قبضة مافيات النشر والنشل وعصابات المناقصات الزبونية المحسومة؟ لماذا لا يكون الاستعجال في توفية أصحاب الحقوق حقوقهم؟أم أن الاستعجال لا يكون إلا فيما يعود على القطاع بالسكتة القلبية المؤجلة إلى حين؟ إن المخطط الاستعجالي مخطط للأمنيات والأحلام لا يحل مشكلات التعليم والتربية ، وسيظل مرتهنا بالأحلام حتى يستيقظ الجميع على هول الفاجعة، فإن الأحلام بضائع النوكى كما يقولون. هذا موجز فصل المقال فيما بين الاستعجال والابتذال في التربية من الاتصال.