كان يوم خروج عبد الودود للعب مع أصدقائه في الحي، من بين الأيام السعيدة على قلبه، فهو لم يكن طفلا عاديا كباقي الأطفال، بل كان متميّزا ومتفردا في شخصيته. ذلك أن حبّه للقراءة جعله يلتهم -بنهم قل نظيره- جميع ما وقع بين يديه من كتب، وقصص، وجرائد، ومجلات... وهو إذ ذاك في سن مبكرة لا يتعدى العاشرة من عمره. غريب لطفل في هذا السن أن يعرف الوجودية، والسريالية، واللامعقول في المسرح...؟! خرج ذات مرة عبد الودود في يومه المعهود، وهو نفس اليوم الذي يلعب فيه مع أصدقائه، فسمع هُتافا قادما من بعيد؛ لأحد أبناء الحي، فإذا هو أحمد العباس الذي أعطاه عشرة دراهم ليشتري له شيئا من المكتبة المجاورة لصيدلية "الوطن" الواقعة وسط المدينة. ومن فِطنةِ الطفل عبد الودود أنه كان أوّل من بادر إلى سؤال العباس بقوله: – لا شك أنك تريد شراء كتاب ما؟ أجابه: – نعم! كتاب مهم جدا كان قد نصحني بقراءته أحد أساتذتي خلال العطلة الصيفية. إنه عبارة عن قصة مفيدة تنتمي إلى الأدب المغربي، سأتعلم منها السرد والوصف في الحكاية الشعبية. وكما سبق أن أخبرتك، فإن هوايتي المفضلة هي الكتابة، وعنوان هذه القصة: "أحلام التِّنين الصغير". هيا ردّد معي يا عبد الودود هذا العنوان لكي لا تنساه. أجابه بكل ثقة في النفس وهو يتطلع إلى إنجاز المهمة: – كن مطمئنا لقد حفظته عن ظهر قلب، أَوَلَيْسَ: "أحلام التنين الصغير". آهٍ كم هو مثير عنوان هذه القصة! لعلني أنال شرف قراءتها من بعدكم، وسأكون ممتنا إن وافقتم على ذلك قصد التعرف على أدبنا المغربي. ابتسم أحمد العباس -وهو الذي يكبره بعشر سنوات ونصف- فظهرتْ على محياه علامات الموافقة بصيغةٍ ماكرةٍ تتخفى وراء أسارير وجهه المغضن. وكأن إحساسا باللؤم يُكشّر عن ناب الشر الدفين الذي يسكنه، فلو آثر الصدق لما خصَّ عبد الودود بشراء هذه القصة. – لماذا أرى الشر يتدفق من العباس بمجرد النظر إلى عينيه! هكذا خاطب عبد الودود نفسه في صمت. فتوجس خيفة، فحوقل وحملق واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم مضى في الطريق الممتد إلى المكتبة. كان لعبد الودود صبرٌ كبيرٌ على الانتظار مع الزبائن في الصف الطويل إلى أن يأتي دوره. ونحن نعرف أن الأطفال في سنه دائما ما يرتمون بأجسامهم ويتسابقون من أجل الشراء، وبدون أدنى التفاتة لمن جاء قبلهم. وهل حقا عذرهم أنهم صغار لا يعرفون؟ لذلك يجب علينا –نحن الكبار- أن نُعلمهم حتى يتمكنوا من استيعاب ثقافة الصف، واحترام الدور. فقد تعلم عبد الودود أدب الانتظار، بل إنّه يدافع عن حقه في ذلك حتى وإن أراد أحد المتحذلقين أن يسطو عليه بسطوه المارد كما تسطو الرياح على أوراق الأشجار في فصل الخريف ... وها هو ذا دور عبد الودود قد جاء! نعم جاء بعد طول الانتظار، كما تجيء الراحة للبال الشارد بعد الانتشال من مدارج التعب والعمل الشاق. وبمجرد ما أن دخل إلى المكتبة وجد بداخلها رجلان. الأول وهو صاحبها الحاج محمد، ويظهر من شكله أنه أنموذجٌ للمواطن المغربي الأصيل، المحافظ على التقاليد، والأعراف الأسرية التي ورثها عن أسلافه الميامين، فاستطاع تخليدها بجمالية خاصة في لباسه الآخذ الذي يوحي برفعة ذوقه الفريد في اختيار الألوان التي تتناسب مع جلبابه الرمادي (البْزِيوِي)، وطربوشه الفاسي الأحمر، وبلغته (الزِّيوانية) الصفراء. الحاج محمد أب لأسرة ممتدة، ويبدو أنه في أواخر الخمسينات من عمره، له أبناء متزوجون، وأحفاد يأتون لزيارته في المكتبة نهاية كل أسبوع. بهذا الفضاء الرحب، يقضون مع جدهم أجمل أوقاتهم، وهم يستمعون لشروحاته ومعلوماته عن بيع الكتب، والمجلات، والجرائد...، فضلا عن أحاديثه ومحكياته عن (الكَاوْدِيجُو) فْرَانْكُو، وقت كان شمال المغرب الأقصى يرزح تحت وطأة المستعمر الإسباني. هذا وبالإضافة إلى عشقه لأم كلثوم وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب إلى درجة الجنون. لقد كان الزعيم محمد بن الحسن الوزاني بالنسبة للحاج محمد المثل الأعلى الذي اتخذه في السياسة وحب الوطن. أمّا الرجل الثاني فاسمه قاسم، يشتغل بالمكتبة عاملا موسميا. يظهر من شكله أنه شاب بشوش الوجه، أنيق الهندام، في الثلاثينات من عمره، يلقبونه بالأستاذ. فهو مُتضلِّعٌ من القراءة والكتابة، وخبير معتمد في التوجيه والبحث عن المواضيع والعناوين التي تستأثر باهتمام القراء. تقدم الطفل وتنحنح وأدى التحية عليهما، ثم ردا عليه بمثلها، وابتسما له. ثم قال الحاج لقاسم وهو ينظر إلى عبد الودود شَزْرًا: – يا قاسم ساعد هذا الطفل في البحث عما يريد؟ وأنا سأجمع بعض الحسابات العالقة عندي في هذه المذكرة، تلك التي تخص المرجوعات. أجابه قاسم: – وهو كذلك سيدي الحاج. ثم خاطب الطفل عبد الودود بابتسامة مشرقة، وقال له: – نعم بني ماذا تريد؟ أجاب عبد الودود بتلهف الأطفال وحماسة المحارب: – أريد قصة بعنوان: أحلام.. التِّ.. التِّ.. نِينْ.. – ماذا تقول! على مهلك !!.. – نعم تذكرتْ.. ! قصة بعنوان: "أحلام التِّنين الصغير". تغيّر وجه قاسم البشوش، وصار عبوسا قمطريرا مِلؤه الغضب والضجر... ثم نظر إلى الطفل عبد الودود باستهجان وكأنه ازورَّ من وقع ما سمعه. يا الله..! ما هذا..! لقد رأى الطفل لهيبا قادما من المكتب الذي يجلس عليه الحاج. ثم إنه تلقّف كراتٍ من لهيب التّنين. إنها كراتٍ سُوِّيتْ على نيران حارقة وملتهبة شرارة، فانقض الحاج على الطفل من حزامه الجلدي، وقام بصفعه حتى تراءتْ أمامه أحلام التنين الصغير، وهي تتلاشى وكأنها خيط دخان في السماء. ثم أحكم قبضته على قميصه الأبيض، محاولا تثبيته بإحكام. لكن الطفل انفلتَ منه بأعجوبة وركض مستجمعا كل قواه للنجاة بنفسه خارج فضاء المكتبة. أمّا قاسم، فإنه ما انفك يجري وراءه ويصيح للمارين بلغة أهل الشمال، ويقول: وَا عْرْضْ.. عْرْضْ..!! بمعنى أن يعترض أحدهم طريق الطفل، ويساعد قاسم على توقيفه لكي يقبض عليه. وطبعا حتى ينال رضا الحاج محمد الذي سيكافئه حتما على صنيعه. وأي مكافأة هاته يا ترى؟ تلك التي تعيد لصاحب المكتبة هيبته وكرامته واحترامه من لدنِ الآخرين. لكنّه مع الأسف، فقد بلغ السيل الزبى والحاج محمد ما فتئ يصرخ بصوته المكظوم، وهو يُلقي بقذائفه يمينا وشمالا.. لا حيلة له فقد انفجر لهيبا.. إنه يحترق بناره.. وأي نار هاته.. نار انتظار وصول قاسم الذي عاد إليه بخفي حنين. لقد استطاع الطفل الجري بسرعة فائقة بهدف تحطيم الرقم القياسي، وكأنه العداء المغربي هشام الكروج في أبهى تجليات لياقته البدنية، زمن البطولات العَالَمية، في سباق 1500 متر. وبعد ذلك، عاد عبد الودود منهك الجسد، مهلهل الهندامِ، وقطرات العرق تتصبّب من جسمه النحيف، وهو يبحث عن أحمد العباس الذي وجده يجلس بمقهى "السعادة" رفقة جماعة من أصدقائه الشباب الذين امتهنوا الجلوس في المقاهي والاستجمام في مخيم أمين فُرضَ عليهم، فَرْضَ المُجْبَرِ لا البطل. إنه مخيم البطالة والتسكع واللامبالاة... صرخ عبد الودود في وجه أحمد العباس قائلا: – خذ نقودك عني ..!! لقد كادت قصة: "أحلام التنين الصغير" أن تفتك بي كما تفتك العناكب بالحشراتِ في بيتٍ من أوهنِ البيوت، فتصير لقمة سائغة لا عناء فيها. قهقه أحمد العباس هو ورفاقه قهقهة السكارى، وسخروا من عبد الودود سخرية الجبابرة، ثم تنهد أحدهم بصوته الرخيم، وقال له: – الآن وقد عرفتَ من هو التّنين الصغير.. فهنيئا لك بقذائفه العجيبة، وكذلك بنيرانه الماحقة! لم يستطع عبد الودود الصبر على ما ألّم به، فبكى بكاءً شديدًا وهو في طريقه إلى المنزل نتيجة الإهانة والتنمر، بل إن الأرض ضاقتْ عليه بما رَحُبَتْ، واستشعر الظلم وهو يسري في وجدانه، ويُسيطر على انفعالاته، وردود أفعاله، من جراء تَهتُّكِ أحمد العباس وجماعته. وكانت الفجيعة..! وأي فجيعة هاته..! انطلق الرعد مدويا صاخبا كما لو كانت قد أهاجته قصة "أحلام التنين الصغير"، وأبرقتْ السماء حتى وصل صداها إلى المقهى فانقطع التيار الكهربائي. وقيل بأن جماعة أحمد العباس شعرتْ بخطورة الموقف، فأصابهم الهلع والفزع، فأُخرستْ ألسنهم ولم يستطع أحد منهم أن ينبس ببنت كلمة. وقيل بأن النّاس سمعوا نحيب الريح وعويله، وهو يُخيِّمُ على فضاءِ المقهى كأنه صوتُ صُراخٍ قادمٍ من السَّماءِ. فظهر حينئذ شيخٌ وقورٌ بجلبابه الصوفي ناصع البياض، يمسك بيده اليمنى فانوسًا اتخذه لكي يُنير له الطرقات المظلمة بعدما انقطع التيار الكهربائي. وقد ثار الشيخ في وجه أحمد العباس وجماعته، قائلا: – يا قوم! انتظروا عقابكم.. يا قوم! انتظروا حسابكم.. يا قوم! انتظروا قضاءكم. أمَا علمتم قوله تعالى على لسانِ صانعِ السفينةِ سيِّدنا نوح عليه السلام: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ).