صحيح أن أخبار العالم لا تشي بان هناك حوار جاد للثقافات والأديان لكن هذا لا يعني على الإطلاق انعدام هذا الحوار على مستوى الأفراد والجماعات. ترددت كثيرا في السنوات الأخيرة عبارة صراع الحضارات و قيل الكثير بعد ذلك دينيا وسياسيا وفكريا، أدبيا وفنيا وما زال الجدل قائما كبقية الحوارات الشائكة التي يمزج فيها السياسي بالديني والاقتصادي والاجتماعي، الخ. رغم هذا وذلك يبقى الأفراد ذوي التوجهات المنفتحة على الآخر المختلف دائما حاضرة. رغم الألغام التي تزرعها السياسة والإعلام في الغرب إلا أن هذا الغرب نفسه ينجب شبابا يتطلعون إلى مستقبل أفضل نفسيا وروحيا وبطبيعة الحال ماديا. في غمرة الاحتفال بالحرية على كل المستويات ما يزال بالإمكان أن تلتقي في الغرب شبابا كلهم رغبة في معرفة الآخر عبر الآخر وليس عبر إعلام وسياسة الأنا [الغربية] – رغبة يتوجب على شبابنا تطويرها كذلك لفهم الذات والأخر معا. على مدار العام سجلنا نقاشات طوال مع شباب وشابات، باحثين وباحثات كلهم رغبة في معرفة المزيد عن الثقافة العربية والإسلامية. جالت بنا الحوارات الأخوية من الأسئلة الوجودية إلى المبادئ العامة لثقافتنا الإسلامية والحياة الاجتماعية وتقاليد العيش والأعراف رغم اختلاف الأمكنة التي التقينا فيها: سواء في الجامعة أو عند ملتقيات حوار الأديان أو عند اللقاءات الاجتماعية في النوادي أو المسابقات الرياضية التضامنية على الشاطئ صيفا، أمكنة حاولنا دائما أن يكون صوت العروبة والإسلام حاضرا فيها وهو ما كان يلقى أصواتا تمتدح روح الإسلام وتعاليمه رغم اختلافها وصعوبة فهمها على من لا ينتمي إليها. لا داعي للقول بأنها مناسبات لتسليط الضوء على بعض المغالطات التقليدية التي طبعت الخطاب الديني عندنا منذ عقود أو قل قرون. "" صحيح كذلك أن اختلاف الانتماء الثقافي والديني يصعب من مناقشة أسئلة جوهرية تمثل أساس الاختلاف بين الأديان، إلا أن ذلك كان محفزا لمزيد من النقاشات والتوضيحات والإحالات التي من أساسياتها الابتعاد بالمطلق عن اعتبار الأنا أفضل من الآخر المختلف رغم وجود نصوص دينية في هذا المضمار. وهنا تنصب جهود الحوار وأدبياته. فمحاورة الآخر بتمجيد الأنا لن يكون من ورائه طائل، بل العكس، قد يؤدي إلى النفور وعدم الاحترام. يبنى الحوار و يستمر عندما يحترمك الآخر كشخص أولا وعندا تثبت له بتعاملك وأخلاقك وعملك بأنك ثابت بالعزم، قوي بالإيمان، ومنفتح بالمعاملات - وكلها بروتينات يكتسبها الفرد ويجذر أعماقها بفهم ذاته أولا وبقبول الآخر كما هو وعدم التقليل من ثقافته ودينه وقيمه ثانيا – أنك لا تريده أن يكون بصفك وبقيمك ولكن أن يكون قبل كل شيء ذات محاورة قادرة على الإنصات إلى تاريخي بروايتي لا برواية من ينكرون ثقافتي ويخافون ديني. قصص كثيرة هي تلك التي تجد فيها الغربي يدافع عن قيم الشرق، قصص تروى لنا ، ولكنه هناك أوقات نعايشها أنفسنا ،فتصبح صورتها أكثر وضوحا ومصداقية عندنا. من أحد الملتقيات الجامعية وجهت لنا دعوة من طالبة باحثة في العلوم السياسية تبحث في موضوع المرأة في الإسلام. ساعات طوال جمعتنا حول الحديث عن هذا الموضوع الذي يلاحق به الغرب الإسلام بدعوى أن حقوق المرأة المسلمة غير مكفولة. في مناقشتها لبحثها الذي نوه به أساتذتها توضح الطالبة الايطالية ناتاليا حقوق المرأة في الإسلام وواجباتها وتدافع عن الصورة النمطية التي تقلل من شأنها وتمثل لذلك بالسيرة النبوية الشريفة وحياة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبعض المفكرات والناشطات المسلمات، شارحة ما يكفله الدين وما لا تكفله التقاليد والنظم السياسية الراشية في البلاد العربية الإسلامية التي تكثر فيها معاناة المرأة المسلمة إجحافا، لا بسبب الدين. ويأتي اهتمام الطالبة بالموضوع بسبب جذور عائلتها الايطالية التي كانت قد استقرت بأحد البلدان العربية فتأثرت بتراثها وطيب خاطر أناسها لتستمر هذه العلاقة العطرة بالبحث في الموضوع والقراءة حوله حتى أننا قد لا نجد ما قرأت الطالبة من كتب متوفرة عند الكثيرين من شبابنا المهملين – بكسر الميم الثانية. وتوضح بعض الصور المرفقة جانبا من مكتبة الطالبة ومن متحفها الشرقي الذي يتزين بساعة للأذان وقبعات وعبارات إسلامية وبعض الصور التي تعبر عن الانفتاح عن التراث والمعمار العربي الإسلامي. في سبيل تعميق شرح بعض الأمور الدينية في سياقها قررنا معا – وبرفقة مجموعة من الطالبات الأخريات – زيارة المركز والمسجد الإسلامي بروما. لم يقف هطول الأمطار في طريق الفكرة. كان اليوم يوم أربعاء حيث تفتح الزيارات للأجانب و مناسبة للالتقاء بتلامذة المدارس والثانويات الذين يزورون المسجد في إطار دراسة الأديان للاستماع لحلقة دراسية حول أركان الإسلام وبعض الأسئلة التي يطرحها المتتلمذون. كانت الزيارة مناسبة أيضا للحديث إلى الداعية والموجه الايطالي الذي اعتنق الإسلام في بداية الثمانينات... حاصل القول من هذا المقال هو انه في الوقت الذي ينحرف فيه شبابنا على نعم ولدوا عليها نجد شبابا آخرين ما يزالون يبحثون عن ذواتهم في مجتمع استفحلت فيه الرذيلة والمادية المغيبة للدين والمستضعفة –بكسر العين- للأخر. والمقال مناسبة أيضا للبحث في سبل الحوار وكيفية تقريبها وتسهيلها وعدم التشدد فيها من أجل إيجاد قنوات لتواصل فعال تقل أو تنعدم فيه الشوائب. ولمن حمل المسؤولية أن يتمها، فالأعمال بالنيات، والدين المعاملة...