أستاذة العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، والمسؤولة بمركز الحضارة للدراسات السياسية، التقيناها في مقر منظمة الإيسيسكو بالرباط، وانتزعناها بصعوبة من أيدي طلبة العلاقات الدولية لجامعة محمد الخامس السويسي. فكان لنا معها هذا الحوار عن جدوى وحقيقة الحديث عن حوار الحضارات. وكان منها هذا التحذير من مخاطر أن يصبح الحوار أداة للسياسات الخارجية للدول، أي أن يتم تسييسه، ومن ثم تنعكس عليه اختلالات موازين القوى، لتتحول الحوارات إلى احتفاليات برأي الآخر فينا. - هل موازين القوى على الصعيد الدولي وواقع العلاقات الدولية تسمح بالحديث عن حوار حقيقي بين الحضارات؟ < بالتأكيد لا، لأن موازين القوى تنعكس على أي عمليات تفاعلية بين الشعوب وبين الحكومات، والحوار بطبيعته هو عملية تفاعلية. لكننا يجب ألا نكتفي بهذا الجواب، ونقول طالما موازين القوى غير مجدية ليكون هناك حوار يؤدي إلى فعالية في تغيير المدركات والمواقف، فلا داعي للحوار. بل لابد أن نتساءل: هل هناك رغبة في أن يكون هناك حوار أم لا؟ والجواب طبعا هو نعم، لابد أن يكون هناك حوار داخل الأسرة الواحدة وداخل الوطن الواحد وبين الشعوب، ولا أقول بين الحكومات. فإذا كان الواقع على هذا النحو، وهناك أمور تعوقه، كيف يجب التصرف؟ هناك أمران: يجب أن نحذر أولا من مخاطر أن يصبح الحوار أداة للسياسات الخارجية للدول، أي أن يتم تسييسه، ومن ثم تنعكس عليه اختلالات موازين القوى، فإذا كانت دولة، كما يحدث الآن مع الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر، تقود إستراتيجيتها في العالم من خلال بعدين: بعد عسكري شديد الدموية في ما يسمى بالحرب على الإرهاب... -.. والحروب الاستباقية < نعم، بل حروب فعلية باحتلال أفغانستان والعراق والمساندة الكاملة للاستعمار الصهيوني وما يفعله في فلسطين، والتدخلات غير المباشرة في مناطق الصراع الساخنة مثل دارفور ولبنان وغيرها، وفي كل هذه الأمور تستخدم كلمة الحرب على الإرهاب. لكن إلى جانب هذه القناة الصلدة، هناك قناة مرنة، نتحدث فيها عن معالجة ما يسمى بالإرهاب، والأوربيون في هذا هم أكثر مهارة وأكثر اعتمادا على معالجة جذور الإرهاب على معالجة تجلياته، فيتحدثون عن حروب أخرى على مستوى الأفكار والعقائد... هنا تلجأ إلينا الولاياتالمتحدة بدعوى الرغبة في الحوار، فيخططون استراتيجيات كبيرة للحوار، ومبادرات كبيرة بمؤسسات كبيرة وأموال كثيرة، فيحضر كل ذلك بثقل كبير ليستهدفنا، وللقول: أنتم لديكم شيء ما غير مضبوط، يجب أن نتحاور لتتعلموا منا، وليحدث لديكم تغيير بشكل معين. هذا لا يقال صراحة بهذا الشكل، لكن هذا ما يحدث من خلال القنوات التي يعتمدون عليها: قنوات المرأة والأسرة والتعليم والشباب والإعلام. وهذا هو التسييس الذي يجعلك تقول إن ميزان القوى ينعكس على الحوار... - هل نرفض الحوار إذن؟ < أنا أقول إنه لا يجب رفضه، ولكن شريطة ألا تتحول الحوارات إلى احتفاليات، فعلى المستوى الرسمي تتحول دائما إلى احتفاليات، حيث تلتقي الحكومات، فتعتذر الحكومات الإسلامية عن الإسلام وعن الإرهابيين، وعن كل ما نحن متهمون به، ولا يتخذون موقفا هجوميا.. - نكتفي برأي الآخرين فينا؟ < نعم، يقولون لماذا هذا الإرهاب ظهر الآن؟ ونحن نقول إن هناك إطارا سياسيا داخليا ودوليا غير عادل وغير منصف يولد بيئة خصبة وصالحة للتطرف. هذا على المستوى الرسمي، أما على المستوى غير الرسمي، فعلينا أن ندخل في الحوار بقوة، لكن بشروط، أي أن تكون لنا مواردنا البشرية القادرة على الحوار، وأن تكون لنا مؤسساتنا القوية في هذا المجال. إذن هناك عراقيل تعوق الحوار، لكنه يظل قناة يجب عدم التخلي عنها، شريطة أن نفهم خطورة تسييسها، مع اتخاذ مواقف هجومية وإعداد العدة، والأهم من ذلك ألا نعتقد أنها السبيل الوحيد لحل مشاكلنا مع العالم. هناك سبل أخرى كبناء الذات الاقتصادية والعسكرية، والمقاومة العسكرية إذا لزم الأمر، حتى لا نتحول إلى ذهنية الحوار والسلام بلا شروط، وهذا مكمن الخطورة. - مسألة ادعاء الغرب قيامه بمحاورتنا من أجل تغييرنا، ألا تعتقدين أنها فكرة بدأت مع الحملات العسكرية الأولى؟ أي القول بحمل الحضارة إلى شعوب متخلفة، وهذا مجرد امتداد لها؟ < هناك خيط مستمر في التفاعل الثقافي بين أطراف غير متكافئة، وذلك حين تستخدم الثقافة لخدمة أهداف سياسية. فمنذ الحملات الصليبية وبداية الاحتكاك الفعلي بيننا وبينهم، بدأ الاستشراق، ثم بدأت عمليات الالتفاف حول العالم الإسلامي بدعوى اكتشاف العالم الجديد، فيأتي التاجر مع العسكري والمبشر. والتواجد نفسه من الطبيعي أن يأتي بقيم وأفكار إما بقوة وقهر أو عن طريق الإبهار، ليحدث التأثير. ثم مع الاستعمار، جاءت المدارس والإرساليات وأمور كثيرة غيرت النظم التعليمية والتربوية. لكن الأمر الآن أصبح أكثر خطورة، لأنه فيما قبل كان يقتصر على النخب، أما الآن وفي مرحلة العولمة، فقد أصبحت حروب الأفكار والعقائد والثقافات تدار مع القاعدة، وليست مع النخب. والقوى الشعبية هي المستهدفة الآن من خلال أدوات ثقافية لتغيير مفاهيمها ووعيها. وأصبح الخارجي يخترق الداخلي كليا، بالسموات المفتوحة والسياحة والهجرة... الأخطر أن هذه التّأثيرات لم تصبح لها منافذ محددة تستطيع وضع الأصبع عليها... - وإغلاقها إن أردت < نعم، لكنك لن تستطيع إغلاق المنافذ الجديدة، وأنا هنا أحلل الواقع ولا أدعو إلى العزلة والانغلاق. لأنني على قناعة بأن ثقافة شعوبنا في حاجة إلى تغيير، لكنه تغيير يحافظ على النواة الصلدة في الثقافة، وما يتصل بالهوية والثوابت. حتى نصبح قادرين على مقاومة العديد من الأمراض الاجتماعية والسياسية، والتي أهمها الثقافات الطوعية واللاإرادية واللامبالاة الغريبة التي يحاول البعض ربطها بالإسلام... - على ذكر الإسلام، لماذا هذه المركزية التي باتت للعالم الإسلامي في كل حديث عن حوار الحضارات؟ < نعم وكثيرا ما يقال لنا: لماذا تتحدثون فقط مع الغرب، لماذا لا تتحدثون مع ثقافات أخرى في الصين واليابان مثلا؟ ذلك لأننا ليس لدينا مع الحضارات الشرقية اتصال استعماري مباشر، وليس هناك قرب جغرافي مباشر. وهاتان الحضارتان لا تدعيان العالمية. وليست لهما أدوات القوة الثقافية العالمية. ثم إن العالم الإسلامي ووفق مؤشرات عديدة وليس بناء على نظرية المؤامرة، قفز إلى صدارة التخطيط الاستراتيجي الأمريكي والأوربي، كمساحة لممارسة القوة والهيمنة العالمية، أردنا أم لم نرد هذه حقيقة. انظر فقط على امتداد العقدين الأخيرين، أي بعد نهاية الحرب الباردة، أين تجري المعارك العسكرية والتغييرات الداخلية بشدة وبأدوات مختلفة؟ في العالم الإسلامي طبعا، أو ما يسمونه الشرق الأوسط الكبير أو المعدل... - لكن ما جدوى الحديث عن حوار الحضارات بين أطراف بينها مشاكل وحقوق مغتصبة، هل يمكن الحديث عن حوار حضاري مع طرف يحتل جزءا من أرضك مثلا؟ < هنا الأمر واضح جدا، أنا لا أستطيع أن أحاور إسرائيليا في إطار حوار الثقافات، وحين جرى حوار للأديان بين الأزهر والفاتيكان واليهود قامت أصوات معارضة كثيرة. ولا أستطيع الحديث عن حوار ثقافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإن كانت أجهزة كثيرة تأتي إلى الداخل الفلسطيني باسم تقديم المساعدة الإنسانية، وتتحدث عن بناء ثقافة السلام والقبول المتبادل. لكن كيف لنا أن نتصور حوارا بين معتد ومحتل، إلا أن يكون هذا على سبيل الاستسلام. هذه حالات واضحة لا خلاف حولها. لكن إذا كنا نتحدث عن أشياء أخرى فيجب أن نعي أمرين: صميم الدعوة الإسلامية أنها دعوة عالمية، والدعوة العالمية هي في صميمها حوار، فأنا أعتبر أن الحوار عملية طبيعية ممتدة تجري بين البشر في أي زمان ومكان. وبهذا المعنى أنا أتمسك بالحوار، ذلك الحوار الذي يسمى حوار الحياة، فأنت إذا سافرت إلى أي مكان تعتبر نفسك في مهمة حوارية. وبإمكاننا أن نحدث تغييرات تراكمية وتدريجية لدى أفراد وجماعات، ولا يجب أن نتخلى عن هذا.