راجت، بالأيام القلائل الأخيرة، أخبار مفادها أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وضع مسودة مذكرة قد يكون رفعها فعلا للقصر، بغرض تضمين الوثيقة الدستورية الحالية، بعض الإصلاحات، يكون لمفاعيلها بعض من النجاعة، ويكون من شأن تفعيلها، التخفيف من حدة الاحتقان القائم، لكن المضمر، بين مختلف مستويات السلطة بالمغرب. "" ليس لدينا معطيات ضافية عما صيغ بالمسودة من مطالب، لا بل إن معظم أعضاء القيادة السياسية للحزب لم تطلع على فحواها، ولربما لم تستشر طيلة مراحل تهييئها، لكن ما تسرب للإعلام يشي بأن ثمة حقا وحقيقة، مذكرة سلمها الحزب إياه للحزب "الحاكم"، حزب الاستقلال، حليفه الافتراضي، فرفضها هذا الأخير، على اعتبار أن الإصلاح "يجب أن يأتي من القصر الملكي، وفي الوقت الذي يختاره هو". ليس بالمذكرة، على الأقل كما راجت عمومياتها، أو روج لبعض مفاصلها الكبرى بالصحافة، ليس بها نقاطا جوهرية من شأنها إعادة هندسة التوازنات السياسية القائمة، بقدر إحالتها على قضايا جانبية صرفة، لا تطاول كثيرا جوهر الوثيقة، التي تكون الخيط الناظم للحياة السياسية ولنظام الحكم بالمغرب، لأكثر من عقد من الزمن على الأقل: + فهي تطالب بضرورة تقوية مؤسسة الوزير الأول، بما يضمن لهذا الأخير هيبة المنصب، وسمو مقامه، ليس فقط بالقياس إلى مقام الوزراء المشتغلين بجانبه، بل وأيضا بزاوية توفير الحد الأدنى من الاستقلالية في اتخاذ القرارات الكبرى، مع ضمان سبل تصريف ذات القرارات، دونما تبعية لهذا الطرف أو ذاك، لهذا المستوى أو ذاك، حتى وإن كان محيط القصر ذاته، أو قاطنه حتى. + وهي تطالب بإصلاح الجهاز القضائي، شكلا وبالمضمون، بصيغة تضمن له الاستقلالية والحيادية عن السلطات الأخرى، وتقيه شر الضغوطات والإكراهات، التي غالبا ما تتأتى من جهات لها سلطان نافذ، أو محتكمة إلى نفوذ يتجاوز على القانون، أو قريبة من مصادر في السلطة، لا يرد لها أمر، أو يرفض لها طلب. + ثم هي تطالب بإعادة بعض من النظر في الغرفة الثانية، غرفة المستشارين، القائمة في بنيتها وتركيبتها، على مبدأ الانتخاب غير المباشر للأعيان وممثلي الأطراف الاقتصادية والاجتماعية... بما يضمن تجاوبها مع قرارات الغرفة الأولى، لكن دونما أن تتساوى مع هذه الأخيرة في التشريع أو مراقبة الحكومة، ناهيك عن عزلها، هي التي (الغرفة الأولى أقصد) تضم من بين ظهرانيها، نوابا أتوا باقتراع الشعب العام والمباشر، لا باقتراع تستوظف فيه المصالح، ويرتكز على الإغراء والمساومة. هي مطالب هامة دون شك، لكنها عامة في أبعادها، جزئية وهلامية في الجوانب المتعرض لها، تدرجية في التصور القائمة عليه، وبكل الأحوال بعيدة أيما يكن البعد، عن الإصلاح الدستوري الحقيقي، الذي من شأنه إعادة النظر في هندسة علاقات السلط، في طبيعتها، في حدود كل سلطة على حدة، وفي المستويات التي من المفروض أن تفض في النزاعات المحتملة بينها، باستقلالية وتجرد تامين. صحيح أن هذه المطالب كانت قائمة قبلما يصل الحزب، حزب الاتحاد الاشتراكي، إلى الحكومة، وصحيح أنها كانت تتم من ذي قبل، بتنسيق كامل وتام بين مختلف مشارب "أحزاب اليسار"، ذات التوجهات السياسية والإيديولوجية المتقاربة. وصحيح أيضا أنها تتم اليوم، وكل ذوات الأحزاب ممثلة بالحكومة، بهذا الشكل والوزن أو ذاك. لكن الصحيح أيضا أن الحزب بالقطع، إنما يراهن على ذات المذكرة لاستعادة بعض من مشروعية ضاعت، كونها تحطمت على محراب ممارسة السلطة، وأنه يراهن عليها لضمان بعض من أصوات إضافية، بانتخابات جماعية قادمة (انتخابات يونيو العام 2009)، بات الحزب الإداري الجديد (حزب علي الهمة ورهطه) يلمح إلى أنه سيكتسح معظم مقاعدها، إذا لم يكن بقوة المشروع السياسي الشعبوي الذي يدفع به، فتأكيدا بما أوتي من نفوذ وسلطة وجاه بكل مستويات السلطة. إن مطلب الإصلاح الدستوري بالمغرب اليوم، لم يعد مجال مزايدة، ولا مكمن مراهنات من هنا وهناك، ولم يعد، فضلا عن ذلك، نزوة قد تطاول هذا الحزب أو ذاك، بظل حسابات الاستحقاقات الانتخابية أو ما سواها. إنه أضحى مطلبا حقيقيا وملحا، لا يقبل المراوغة أو التحايل، ليس فقط باعتبار ذات الإصلاح حاجة سياسية ملحة، بعدم تلبيتها سيبقى البوار السياسي بأعلى منسوبه، ولكن أيضا لأنه يرهن "المشروع الديموقراطي الحداثي" الذي بشر به "العهد الجديد"... أعني عندما وصل الملك محمد السادس للسلطة، أواخر تسعينات القرن الماضي. ليس ثمة عديد مداخل لبلوغ الإصلاح الدستوري المنشود بالمغرب. إذ ثمة توافق تام وشامل على أنه لو قدر لذات الإصلاح أن يقوم ويستقيم، فيجب أن يطاول السلطات الضخمة والواسعة التي يتمتع بها رأس الدولة، لدرجة تغوله على ما سواه من مستويات مؤسساتية. بالتالي، فلو تسنى لذات السلطات أن تتقوض أو تتراجع، فإن من شأن ذلك أن يرفع، بتحصيل حاصل، من منسوب قوة وفاعلية ونجاعة باقي مستويات السلطة: °°- فالملك هو قلب الوثيقة الدستورية القائمة حاليا، ومن ثمة فهو قلب النظام السياسي بامتياز، إذا لم يكن بالسلطات المادية المباشرة الممنوحة له، فبالسلطات الرمزية التي يمنحها إياه الفصل التاسع عشر من ذات الدستور، والتي لا يمكن التحاجج على أساسه، أو إعمال الاجتهاد للطعن في التأويلات، التي غالبا ما يخضع لها في الشكل والجوهر. إن للملك، بمنطوق هذا الفصل وبغيره، كل السلطات، الدنيوي منها كما الديني، لا يستطيع أحد معرفة مداها، ولا أين تبدأ، وإلى أية درجة يمكن أن تصل. الفصل 19 هو بالتالي دستورا قائما بذاته، أو لنقل دستورا داخل الدستور، ليس بالمستطاع تحديد مجاله، ولا الدرجات القصوى التي يمكن أن يبلغها تطبيقا وتأويلا، وما سوى ذلك. °°- والملك هو صلب ذات الوثيقة، يعين الحكومة بمشيئته، بصرف النظر عما يكون قد تحصل عليه هذا الحزب أو ذاك بالانتخابات، ويعين باقي أعضاء الحكومة بمشيئته أيضا، وله الحق، كل الحق، في إقالتها ككتلة، أو إقالة عضو أو أكثر من أعضائها، دونما الرجوع إلى هذه الجهة أو تلك، أو استشارة هذا الحزب أو ذاك. هم بالتالي (أعني وزراء الحكومة)، ولكأنهم موظفون لدى جلالته، يقبل بهم أعوانا متى شاء، ويصرفهم من مناصبهم متى عن له ذلك، دونما استشارة جهة ما، أو الاحتراز مما قد يكون لذلك من آثار وتداعيات. ليس للوزير الأول من هنا من محاسب إلا محاسبة الملك له، وليس له من حام إلا حماية الملك، لا بل إن من أعضاء الحكومة، إذا لم يكن معظمهم، من لا يقبل الائتمار بأوامر الوزير الأول، أو يخضع لتوجيهاته، أو يمتثل لقراراته بالجملة والتفصيل، على اعتبار من الاعتقاد السائد بأنه ما دام مصدر التعيين واحد، فلا فضل ولا سلطة لأحد على أحد، حتى وإن كان رأس الحكومة ذاته. °°- والملك هو الذي يعين في المناصب العسكرية والمدنية العليا، حتى إذا ما تسنى لأحد أن ينال ذات الرضا، بقي بمنصبه إلى أن تدركه الموت، بعدما يكون قد تعامل مع ذات التعيين ولكأنه غنيمة أو رخصة مفتوحة، تمنح لصاحبها قوة الأمر والنهي، دونما رقيب أو حسيب أو رادع يذكر. °°- ثم إن الملك هو الذي تصدر أحكام القضاء باسمه لا بما سواه، وهو الذي يترأس المجلس الأعلى للقضاء، ويثوي خلف تعيين عدد من أعضائه، ووضع حد لوظائفهم بإرادته، وهكذا. بالتالي، فلما كانت كل خيوط اللعبة تنهل من معين واحد، ولها نفس مصدر الشرعية والمشروعية (أعني تلك المتأتية من المؤسسة الملكية)، فإن كل حديث عن الإصلاح يجب أن يبدأ من إصلاح ذات المعين، والدفع بتقويض الآليات القائمة والمرتكزة عليه. أي إصلاح دستوري هذا الذي يتحدث عنه حزب (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، تقوض بنيانه وتشظت بنياته الداخلية، ولم يعد له من اعتبار كبير يذكر بالشارع؟ عن أي إصلاح يتحدث وهو يتجاهل العين والمقصد، ويحيل على القشور والمظاهر؟ عن أي إصلاح يتحدث هو الذي لطالما رفع لواءه، لكنه تجاهله وهو بسلطة يخال له أنه يحكم بظلها، ولم يدرك أنه أداة الحكم، لا صانعه؟ قد يحترم المرء مواقف أحزاب في الإدارة، مدمنة في الطاعة والخنوع، مرتهنة القرار، رهينة الحركة، لا تتماهى مع الإصلاح إلا عندما يأتي من فوق، لكنه لا يستطيع أن يحترم مواقف أحزاب، من قبيل حزب الاتحاد الاشتراكي، كانت مكمن أمل كبير وهي بالمعارضة، فإذا بها تخيب الآمال وهي بالسلطة، فتضيع في التفاصيل، وتضيع معها الآمال والتمنيات...حسبنا الله ونعم الوكيل. * باحث وأكاديمي من المغرب [email protected] أنقر هنا لزيارة الموقع الخاص بالدكتور يحيى اليحياوي