قبل أيام، أحيا اليهود ومن يناصرهم ذكرى الهولوكوست. وهذه الأيام، يستحضر الفلسطينيون ذكرى النكبة الأولى 1948، وهي الأيام نفسها التي يحتفل فيها اليهود بما يعتبرونه ذكرى حرب الاستقلال، وكل ذلك يتزامن مع حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني بما أثارته من ردود فعل دولية غاضبة وإن بدأت على مستوى الرأي العام والتحركات الطلابية إلا أنها مرشحة للتأثير على مواقف وسياسات الدول والمنظمات الدولية التي بالفعل بدأت في تغيير سياساتها تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي هذا السياق يأتي تحرك محكمة الجنايات الدولية لتوجيه اتهامات لقادة إسرائيل كمجرمي حرب. حتى الآن، لم تصدر محكمة الجنايات الدولية مذكرة اعتقال في حق قادة الاحتلال، وحتى لو صدرت مذكرات متابعة قد يكون مصيرها هو مصير المذكرة الصادرة في حق الرئيس السوداني السابق عمر البشير في الرابع من مارس 2009، الذي ما زال يعيش في السودان وحتى من انقلبوا عليه لم يسلموه للجنائية، أيضاً مذكرة المحكمة بتوقيف الرئيس الروسي بوتين في مارس 2023 التي لم تجد طريقها للتنفيذ. سبب غضب قادة الاحتلال ليس الخوف من الاعتقال والمحاكمة؛ لأنهم يعلمون أن واشنطن ستحميهم من الملاحقة وقد تمنع صدور القرار. خوف الصهاينة من تعريتهم وتعرية دولتهم كمجرمي حرب وممارسي الإبادة والتطهير العرقي ضد شعب فلسطين وهم يستحضرون ما جرى بعد حرب الإبادة التي قام بها النازيون ضد اليهود خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، حيث تم محاكمة قادة النازية أمام محكمة نورنبرغ بعد الحرب مباشرة! مجرد بحث المحكمة الدعاوى المرفوعة ضد قادة الاحتلال كمجرمي حرب وممارسي جريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في تزامن مع المظاهرات التي تنتشر في الجامعات الأمريكية والغربية والتحولات في الرأي العام العالمي ضد دولة الكيان والتقدم في ملف الاعتراف بفلسطين دولة في الأممالمتحدة... كل ذلك يعري إسرائيل والحركة الصهيونية ويُسقط روايتهم بأنهم شعب حضاري مسالم وديمقراطي، وأن الآخرين يهددون وجودهم، كما أن قرار أو مذكرة الجلب للمحكمة إن صدر، سيسقط خطاب المظلومية التاريخية الذي يروجونه بأنهم وحدهم تعرضوا للإبادة والتطهير العرقي في التاريخ المعاصر، ولنا هنا وقفة... بعد حرب الإبادة (الهولوكوست) التي قامت بها النازية الألمانية ضد اليهود وبالرغم من المبالغة في أرقام الضحايا، إلا أن الحركة الصهيونية، بدعم من الدول والرأي العام العالمي المستنكر للمحرقة والمتعاطف مع اليهود، تمكنت من إقامة دولة بعد عقد تقريباً من بداية الهولوكوست. صحيح أن هزيمة ألمانيا في الحرب والتحول في النظام الدولي بعد انهيار عصبة الأمم وتأسيس منظمة الأممالمتحدة عام 1945 والاحتلال البريطاني لفلسطين والتزامه بتنفيذ وعد بلفور وتآمر الأنظمة العربية على شعب فلسطين في مهزلة حرب 1948، كل ذلك لعب دوراً في سرعة قيام هذا الكيان، ولكن وحدة الموقف ووضوح الهدف عند اليهود وتوظيف الحركة الصهيونية للمحرقة أو المظلومية التي لحقت بهم دون مبالغة في الحديث عن بطولات بالرغم من وجود جماعات يهودية مسلحة قاتلت النازيين في المانيا وفي الدول الأوروبية التي تم احتلالها، كل ذلك كان مهما في الوصول لهذه النتيجة. فهل سنشهد قيام الدولة الفلسطينية قريباً بعد حرب الإبادة التي يشنها اليهود ضحايا حرب الإبادة الأولى على الفلسطينيين؟ نعلم أن زماننا ليس ذاك الزمان وموازين القوى الدولية ليست كما كانت بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى لا نستكين إلى تفاؤل مبالغ فيه على حسابات العقل والواقع، يجب التوقف عند الأمور التالية: 1- التخوف أن تصدر محكمة الجنايات قرارات إدانة واستدعاء لقادة من المقاومة الفلسطينية وإن حدث فستكون سابقة خطيرة؛ لأن إدانتهم ستكون إدانة لحق المقاومة وهو حق تمنحه كل الشرائع الدينية والوضعية للشعوب الخاضعة للاحتلال. 2- هناك تخوفات أن تركب الجماعات الإسلاموية موجة المظاهرات والتحركات الشعبية كما فعلت خلال ما يسمى "الربيع العربي" وما أدى إليه الأمر من انتشار الفوضى والحرب الأهلية. فالمجتمعات الأمريكية والأوروبية ليست المجتمعات العربية والإسلامية من حيث تقبل الإسلاموية. 3- التحولات في الرأي العام ومظاهرات الطلبة تأتي استنكاراً لجرائم الاحتلال وتعاطفاً وتأييداً لعدالة القضية الفلسطينية، وليس انحيازاً وتأييداً لحزب بعينه أو تأييداً لحركة حماس. 4- يجب عدم المبالغة في المراهنة على التحولات في الرأي العام بالرغم من أهميتها؛ لأن تأثيرها على سياسة الحكومات يحتاج لوقت طويل، في المقابل يجب التركيز على استنهاض الحالة الوطنية وتغيير مواقف الشعوب والدول العربية، وخصوصاً المطبعة مع إسرائيل، فلا يعقل أن تتحرك الشعوب في الغرب لنصرة فلسطين فيما توجد حالة موات في المنطقة العربية. 5- سواء تعلق الأمر بإجراءات محكمة الجنايات أو مظاهرات الطلبة والتحولات في الرأي العام بالرغم من أهميتها، إلا أنها مرتبطة باستمرار حرب الإبادة، ولكن في حالة التوصل إلى هدنة وتفاهمات سياسية بعيدة المدى قد تتراجع محكمة الجنايات عن إجراءاتها أو تؤجلها بطلب وضغط أمريكي بذريعة أن أي قرار من المحكمة ضد قادة الاحتلال قد يؤثر على مفاوضات وقف الحرب وتدفع إسرائيل إلى التراجع عن الصفقة. 6- حتى بدون وقف الحرب قد تتراجع كل هذه التحولات في الرأي العام إن لم تجد حاضنة وطنية لتبني عليها لضمان استمراريتها، والانقسام الفلسطيني سيكون أكبر خطر يهدد هذا المنجز. 7- لم يكن قيام دولة إسرائيل ونكبة الشعب الفلسطيني نتيجة قرار الجمعية العامة رقم 194 بتقسيم فلسطين وقيام دولة يهودية فقط، بل أيضا نتيجة افتعال حرب بتنسيق بين بريطانيا والحكومات العربية تمكنوا من خلالها من تهجير غالبية الشعب الفلسطيني والاستيلاء على 78% من مساحة فلسطين بدلا من 55% كما نص قرار التقسيم، وهذه رسالة إلى منظمة التحرير بأن مجرد صدور قرار أممي يعترف بدولة فلسطينية لن يؤدي إلى قيام الدولة فعليا وواقعيا، بل يحتاج الأمر إلى تغيير موازين القوى أو على الأقل وحدة واستراتيجية وطنية، وهو الأمر المفقود حتى الآن. وأخيرا، فإن حرب الإبادة الراهنة مجرد جولة من حرب وصراع ممتد منذ أكثر من 75 سنة، وهي أخطر مراحل الصراع؛ فإما أن تؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة أو تؤدي إلى إنهاء المشروع الوطني التحرري المعاصر والطبقة السياسة بكل مكوناتها، ولكنها في جميع الحالات لن تؤدي إلى نهاية القضية الفلسطينية التي فرضت نفسها عالميا؛ لأنها قضية عادلة وقضية شعب لم يستسلم بالرغم من كل المؤامرات والمصائب التي حلت به.