"البدعة: شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا الصحابة من بعده" هذا هو المفهوم الرائج اليوم لمصطلح "البدعة"؛ وقد ساهمت في نشره عوامل متعددة لا يهمنا الحديث عنها هنا بقدر ما يهمنا بيان جوانب الضعف في هذا المفهوم، وبعض الآثار السلبية المترتبة عليه. هذا المفهوم وإن كان رائجا اليوم ويأتي كسند شرعي في كثير من الفتاوى، فإنه في رأي جمهور الفقهاء ضعيف ومرجوح ولا يصلح دليلا في الحكم ببدعة بعض الأفعال ومخالفتها للشرع؛ لأنه لا يخص البدعة بالعبادات فقط، كما هو رأي الجمهور، وإنما يتوسع فيها لتشمل العادات أيضا، فينتهي به المطاف إلى تحريم ما هو مباح. جل تعاريف الفقهاء وإن اختلفت ألفاظها ترجع إلى أن البدعة هي: "الشيء الذي لا أصل له في الشرع" وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله مثلا: " والمحدثات بفتح الدال جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة" وقال أيضا: "والمراد بقوله: (كل بدعة ضلالة) ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام". فتح الباري 13/254. فالبدعة بمفهوم الفقهاء: "ما لا أصل له في الدين"، تقتضي: أولا: حصر معناها فيما هو من قبيل العبادات، -أي في الأمور التعبدية المحضة- وبناء عليه يخرج من حد التعريف ما هو من قبيل العادات؛ أي ما هو من قبيل الحياة العادية للناس. ثانيا: كل ما له أصل في الشرع، أو بتعبير الحافظ ابن حجر، ما له دليل شرعي سواء بطريق عام أم بطريق خاص؛ لا يعتبر بدعة؛ وهنا يتم التمييز بين العبادات المطلقة، كالنوافل والذكر وقراءة القرآن..إلخ؛ والعبادات المقيدة مثل صوم رمضان والزكاة ..إلخ. ثالثا: لأجل ألا يشمل معنى البدعة ما هو من قبيل "المباح". فالفقهاء حينما ضعفوا البدعة بمعنى أنها "ما لم يفعله النبي صلى الله عليه والصحابة الكرام" فذلك لأنهم رأوا هذا المفهوم فضفاضا وغير منظبط، بل ويفضي إلى مئالات تتنافى وجوهر الدين؛ ومن آثاره السلبية: أولا: توسيع دائرة الحرام على حساب المباح "المباح" أحد الأحكام الشرعية الخمسة، إضافة إلى الواجب والحرام..إلخ؛ والمراد به ما سكت عنه الشرع، ولم يأمر لا بفعله ولا بتركه؛ فهو باق على الإباحة الأصلية؛ ويطلقه بعض الأصوليين على: "ما صرح فيه الشرع بالتسوية بين الفعل والترك". ينظر البحر المحيط للزركشي/ فصل المباح. والحرام في الشريعة الإسلامية قليل، بل وضئيل جدا مقارنة بما هو جائز ومباح، وهذا أمر واضح يؤصله قوله تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" البقرة 185. وغيرها من الآيات.. فعندما تُطلق البدعة بمعنى "ما لم يفعله النبي صلى الله عليه والصحابة الكرام" فإنها ستعم حينئذ الأشياء المباحة في الشريعة الإسلامية، وكمثال على ذلك، الأعياد الوطنية والدولية؛ فقد تم تحريمها ومنع الناس من الفرح بها، والتَّهادي فيها، بناء على هذا المفهوم؛ كما نرى في المثالين التاليين: "حكم الاحتفال بما يُسمى بعيد الأم سؤال: نحن في كل سنة يقام عيد خاص يسمى عيد الأم وهو 21 مارس ، فيحتفل فيه جميع الناس ، فهل هذا حلال أو حرام وعلينا الاحتفال به أم لا . وتقديم الهدايا ؟ الجواب: إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية كلها أعياد بدع حادثة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وربما يكون منشؤها من غير المسلمين أيضاً، فيكون فيها مع البدعة مشابهة أعداء الله سبحانه وتعالى والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام ، وهي عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة، وكل أعياد أحدثت سوى ذلك فإنها مردودة على محدثيها وباطلة في شريعة الله سبحانه وتعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، أي مردود عليه غير مقبول عند الله ، وفي لفظ " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكرت السائلة والتي سمته عيد الأم، لا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد؛ كإظهار الفرح والسرور، وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك.." انتهى، الشيخ ابن عثيمين فتاوى إسلامية ص124. وفي سؤال آخر: "ما هو حكم الشرع في الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعيد مولد الأطفال ، وعيد الأم ، وأسبوع الشجرة ، واليوم الوطني ؟. الجواب: الحمد لله أولا : العيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد ... ثانيا : ما كان من ذلك مقصوداً به التنسك والتقرب أو التعظيم كسبا للأجر، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية أو نحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة ممنوعة داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم ، مثال ذلك الاحتفال بعيد المولد وعيد الأم والعيد الوطني لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن بها الله ، وكما في ذلك التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة، ولما في الثاني والثالث من التشبه بالكفار، ..." انتهى. فتاوى اللجنة الدائمة 3/59. رقم: 10070. هذه الأعياد التي جاء الحكم هنا بتبديعها وتحريمها، ومنع الناس من إظهار الفرح والسرور بها، وإهداء بعضهم لبعض فيها؛ منها ما هو من قبيل ما له أصل في الشريعة الإسلامية كعيد المولد، ومنها ما هو من قبيل المباح، أي من العادات التي تعارف الناس عليها، ولا تدخل في معنى العبادات، وذلك كعيد الشجرة وعيد الأم..إلخ. فهي مسكوت عنها في الشرع، والأمر متروك فيها لاختيارات الناس. ففي كل من هذين المثالين، تأسس الجواب على أن معنى أن البدعة هي: "ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام"، ومن ثَم، جاءت النتيجة بتحريم هذه المباحات.. والحديث الوارد كدليل على الحكم في هذه المسائل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا...إلخ" قد يوهم بأنه دليل صريح في المسألة، والحقيقة أنه فُهم في سياق هذا المعنى المرجوح للبدعة أيضا. فلفظة "في أَمْرِنا" في الحديث، تعني: "في ديننا" أي الأحكام الشرعية المنصوص عليها، فمن أحدث مثلا في الصلاة أو الصوم زيادة أو نقصانا، ففعله مردود عليه؛ أما من فعل شيئا مما سكتت عنه الشريعة، ولم تنص عليه لا بأمر ولا بنهي، كعيد الأم.. أو عيد الشجرة، .. إلخ، فإنه لا تشمله لفظة "أمرنا" لأنه ليس من الشريعة، وإنما من المباح، ومما بقى على حكم البراءة الأصلية، وبالتالي فالناس أحرار في فعله أو تركه. من هنا ندرك أيضا ضعف المقارنة بين الأعياد الشرعية كعيد الفطر وعيد الأضحى، وبين الأعياد الوطنية أو الدولية، التي جاءت في جواب الشيخ ابن عثمين رحمه الله؛ فلا وجه لهذه المقارنة، لأن الأعياد الشرعية من الدين الذي أمر به النبي الله صلى الله عليه وسلم وبين كيفيته وصفته، فهو من جملة الدين الذي لا يجوز الإحداث فيه، أما الأعياد الأخرى فلم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشرعها، وعليه فإنها من المباح والجائز الذي تًرك لرغبة الناس في فعله أو تركه. فكل هذه الفتاوى وأشباهها مبني إذا على طريقة بعض العلماء الذين يدخلون العادات في معنى البدعة، وهي طريقة مرجوحة في معنى البدعة عند جمهور الفقهاء، لأن نتيجتها تحريم المباح. ويؤسفني أن أذكر هنا، أن هذا المعنى المختل للبدعة، قد تسرب إلى بعض الخطباء المغاربة أيضا، فذكر أحدهم مرة أن الاحتفال باليوم الثامن من مارس بدعة؛ مشيرا بدوره إلى أنه لا يجوز الاحتفال في الشرع إلا بعيدين، عيد الفطر وعيد الأضحى؛ وهي مقارنة لا تصح كما أسلفت، هذا فضلا عن أن بعضهم أصبح ينشر في الناس أن قراءة القرآن جماعة والاحتفال بذكرى المولد بدعة، وذلك راجع إلى عدم تدقيق هؤلاء الخطباء لمعنى البدعة كما هي عند الجمهور. ثانيا: عرقلة الكثير من أفعال الخير من الآثار السلبية أيضا لانتشار هذا المفهوم الخاطئ للبدعة، عرقلة الكثير من التطوعات وأفعال الخير التي يقوم بها الناس. وهنا تأتي قراءة القرآن جماعة، والاجتماع على الذكر، ورفع الأيادي في الدعاء، والاحتفال بذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصدقات، واستعمال السبحة في الذكر وغير ذلك من أنواع القربات والطاعات.. إلخ؛ وجلها من قسم العبادات المطلقة، ومما له أصل في الدين؛ لكن -ونظرا لانتشار هذا المعنى السلبي للبدعة- تجد من الناس من يصب جام غضبه على هذه التطوعات غير مراع لا لأصولها ولا لمقاصدها الشرعية.. إلخ. فينفر الناس بذلك عن كثير من أفعال الخير... رأيت في إحدى المناسبات الخاصة، كيف تجرأ أحد الحاضرين ومنع بعض الأشخاص من ترتيل شيء من القرآن الكريم، بدعوى أن ذلك ليس من السنة، وأن الصحابة كانوا إذا اجتمعوا لحفل وليمة لا يقرؤون القرآن. إضافة إلى هذه التطوعات التي لها أصل في الدين، فإن الشريعة دفعت الناس إلى ابتداع أنواع الخير ابتداء، أي مما لم يكن موجودا سابقا، وفي المقابل نهتهم عن ابتداع أنواع الشر؛ وفي هذا نصوص أكثر من أن تحصى. فروى مالك رحمه الله في الموطأ "بلاغا" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من داع يدعو إلى هدى إلا كان له مثل أجر من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وما من داع يدعو إلى ضلالة إلا كان عليه مثل أوزارهم لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا" قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله معلقا على الحديث: " حديث هذا الباب أبلغ شيء في فضائل تعليم العلم اليوم والدعاء إليه وإلى جميع سبل البر والخير.." اه. التمهيد، ج 24 . ص 327. وقال النووي رحمه الله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها.. ) إلى آخره، فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات والتحذير من اختراع الاباطيل والمستقبحات.." اه؛ شرح مسلم، ج 7. ص 104. وقال الإمام الحافظ عبد الله بن الصديق رحمه الله في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة ...الحديث" سن سنة أو استنانها، أي إنشاؤها باجتهاد واستنباط من قواعد الشرع أو عمومات نصوصه، وهذا معنى ما أفادته الأحاديث المذكورة بعبارة "من سن سنة حسنة.." أي من سن سنة حسنة مستندا في ابتداع ذاتها إلى دلائل الشرع كان له أجرها، ومن سن سنة سيئة، أي ابتدع سنة مخالفة للشرع، واستند في ابتداعها إلى ما لا تقره الشريعة، كان عليه إثمها" انتهى. اتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة؛ ص 20. ثالثا: العلاقات الاجتماعية انتشار هذا المفهوم الخاطئ للبدعة، كان له أيضا أثر سلبي على الحياة الاجتماعية للناس، حيث سبب لكثير من الناس إرباكا في علاقاتهم الاجتماعية سواء مع الأقارب أم مع الأصدقاء وعموم الناس. ولنأخد كمثال على ذلك ما جاء في الفتوى التالية: " أمه ستغضب إن لم يحتفل بعيد الأم سؤال: لدي صديق من أحد البلاد العربية وفي تلك البلد عيد الأم لديهم رسمي ، وهو يحتفل مع إخوته وأخواته من أجل أمهم ، وهو الآن يريد أن يقطع هذا الشيء ، ولكن أمه ستغضب منه لأنها تعودت على هذا الشيء وأصبح عادة عندهم في بلادهم ، وهو خائف أن تغضب منه أمه وتحمل عليه إلى أن تموت ولا ترضى ، حاول إقناعها بأن هذا حرام وبالحكمة ولكنها لم تقتنع للجو العام في بلدهم ، ماذا يفعل ؟ أفيدونا يرحمكم الله . الجواب: الحمد لله الاحتفال بعيد الأم من الأمور المحدثة التي لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، وهو كذلك من التشبه بالكفار الذين أُمِرْنا بمخالفتهم، ولهذا لا يجوز الاحتفال به، ولا تطاع الأم في ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ).." انتهى؛ "فتاوى الإسلام سؤال وجواب" بإشراف الشيخ محمد صالح المنجد؛ سؤال رقم 59905. فالنتيجة الحتمية لهذه الفتوى، هي الخصومة والصراع داخل هذه الأسرة. فالسائل إن أخذ بهذه الفتوى، سيخاصم أمه ولا شك، وحتى إن حاول إرضاءها وشارك إخوته في الاحتفال بعيد الأم، فسيفعل ذلك وهو مستشعر للذنب والمعصية؛ وفي كلا الحالتين هناك آثار نفسية واجتماعية سلبية لهذه الفتوى. هذه الفتوى، وما تحمله من آثار سلبية؛ مبنية على أصل ضعيف لا يعتد به جمهور الفقهاء في التحريم، وهو اعتبار البدعة كل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَم كانت نتيجتها منع هذا السائل من الاحتفال بعيد الأم مع إخوانه وأمه. أخيرا، أرجو أن أكون قد أوضحت ولو نسبيا أن معنى البدعة عند جمهور الفقهاء هي "ما لا أصل له في الدين" وأن فهم البدعة بمعناها البسيط والمرجوح، وهي" ما لم يفعله النبي صلى الله لعيه وسلم أو الصحابة الكرام" يترتب عليه تحريم ما هو مباح، وبالتالي التضييق على حياة الناس. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه. * إمام بدوسلدورف/ ألمانيا [email protected]