كتب أندريه مالرو ذات مرة: "أن ثمة ما يحجب عنا ضياع الأهداف، عندما نساوم أنفسنا أن نتيه في الفيافي دون بوصلة، دون أن نبحث عن بعوث بديلة لإحياء الأمل". يجب علينا أيضا، عندما ندعي ممارسة مهنة الإعلام، ألا نبخسها حقها في الانتقاد والتصريف الفكري والمباغتة الصادمة، لأن علة الاستقواء والتردي تبعثها على الصدأ والاندثار، لكن مع نفور هادئ وحازم ومنهجي لا يقطع الجسر العابر إلى النهر. أعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتحرر من الانبهار المضطرب الذي تثيره حالة من التوتر الشديد، يغديها أحيانًا الحضور المهووس للأنانية والتفريط في القيم والعبث بالمآلات. ومن ثمة، نحن مضطرون لمحاولة فك رموز القضايا الخفية، والتنافس على تدويرها واستنطاقها، وإجلائها من حالة الكمون والكلام الفارغ. سأكون موجزا ومجازا. فالذي قيل ومازال يقال عن أزمة الإعلام والصحافة في بلادنا العربية، كفيل بأن يبني حضارة واسعة من اليوطوبيا، وينهي عصرا فريدا من التخبط واللامعنى، في ظرفية صعبة وشاذة أضحت فيها العشيرة الفريدة من قبيلة الإعلام تتصادم وتتنابز وتثور دون إحداث تغيير. ما الذي نحتاجه اليوم، لإعادة تصحيح المسار؟ فلدينا نظام، يحتكم لقوانين فصلت على المقاس، واستدرجت للعب أدوارها بمسافات مناسبة، حد أن نشك في مثاراتها ونحن نقف قريبا بالقدر الكافي لفهم القوة الدافعة وراءها، ولكن بعيدا بالقدر نفسه حتى لا نصبح أداة لها. ما الذي يفاقمه الحال الذي نحن عليه الآن، حتى التردد في إصلاح المنظومة، وهي على مبعدة فارقة من القبض على جمرها، دونما إجحاف أو تردد أو مناكفة؟ هل يتصل هذا الهم السيزيفي بما تعيشه المهنة السلطانية الموهومة، باقترابات القانون والأخلاقيات وبعض من حاجياتنا المعيشية، من الخبز إلى الصحة والتقاعد والتنفس دون رهق أو حسرة على العمر؟ في متاهة اليومي، نقاوم من أجل محاولة استعادة تفكيك هذه الأسئلة والإجابة عنها، وفي أحسن الأحوال تمكين المهنيين إلى جانب علماء الفكر والاختصاص، من تأمين القابلية لدحض نظرية الرداءة في إدارة الصراع إياه، حتى لا تستمر مأساة تحطيمنا وإتلاف جذوة مستنفرة تعيد الروح إلى أجسادنا المخرومة، لأننا بتنا نعتقد أن الصراع داخل عقر الفيلة لا يعكس سوى جزء دقيق جدا من تشكيل رؤية معيبة للعالم ونظام قيمه. وانطلاقا من المتغيرات التكنولوجية الحديثة والمتسارعة، ومع ظهور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، شهدت الساحة الإعلامية إعادة تشكيل أساليب تنظيم وإنتاج وتوزيع المحتوى من خلال وسائل الإعلام التقليدية. وبالتالي، الاندماج السريع في استخدام التكنولوجيا الرقمية. ليس فقط، من أجل إنتاج محتوى مرئي متنوع وتوجيهه من أجل جذب الجمهور، وملامسة أنواع عديدة من الكتابات الصحفية، منها المقالات والتقارير والمحتوى الذي يتعلق بالمنتجات والخدمات والمواضيع والقضايا الراهنة والمهمة، ولكن، أيضا، ليكون الهدف من هذه الصناعة، نقل الأحداث والمعلومات وتقديمها للجمهور بشكل شامل ودقيق، من خلال البحث عن مجالات جديدة من الجمهور والربحية الاقتصادية. ومع ذلك، فإن التحولات الملحوظة أدت إلى التطور السريع للصحافة الرقمية، ما جعلها تواجه صعوبات مرتبطة باحترام المعايير والممارسات المهنية والأخلاقية والتنظيمية . وفي هذا الإطار، شهدت الصحافة الإخبارية في السنوات القليلة الماضية، تدهورا كبيرا حيث أنّ التكنولوجيا قد غيّرت من طرق التواصل بين الناس وطريقة عمل وسائل الإعلام. واليوم، يحصل معظمنا على الأخبار من خلال الهواتف المحمولة ومن المنصات الإلكترونية التي نمت بكثرة باستغلال البيانات الشخصية لمستخدمي الإنترنت، وبالحوز على الإعلانات المربحة التي كانت تنتفع منها وسائل الإعلام التقليدية. وهو ما يستدعي بالضرورة، طرح سؤال الالتزام بالمعايير الأخلاقية، في سياق من التحولات الاجتماعية التي ألقت بالمنظومة العالمية للاتصالات في مرحلة انتقالية فوضوية. وبالنسبة للعاملين في وسائل الإعلام ولأيّ شخص يسعى للحصول على وسائل اتصال موثوقة وآمنة، في المستقبل، أصبح الدفاع عن الصحافة الأخلاقية وتعزيزها أكثر ضرورة من أي وقت مضى. وبفعل الأخبار الزّائفة والدعاية السياسية والمؤسسية إضافة إلى الانتهاكات المتداولة عبر الإنترنت، أصبحت أسس الديمقراطية مهدّدة وفُتحت خطوط أمامية جديدة للمدافعين عن حرية التعبير والمسؤولين السياسيين والإعلاميين. وعلى نطاق أوسع، أدى هذا المزيج السام من التكنولوجيا الرقمية، وغياب الضمير السياسي والاستغلال التجاري لمشهد الاتصالات الجديد إلى زعزعة منظومة الإعلام الجماهيري وإنهاكها. وفي بيئة تكافح فيها المنظومة القانونية لتنظيم أنشطة إنتاج المحتوى على الويب والمواقع الاجتماعية والإلكترونية، حيث يتجه الاتجاه نحو إضفاء الشرعية على "الأخبار المزيفة"، وحيث يحتل "خطاب الكراهية" والمعلومات المضللة مكانًا مهمًا في الفضاء العام الرقمي. أضحت تحديات الإعلام الرقمي مثار نقاش مستفيض ومفتوح على كل الواجهات، تنميه العلامات الجديدة في الحقل السوسيولوجي والثقافي والقانوني، مدفوعة بالضرورة والوثوقية باتجاه بلورة ميثاق ائتماني قابل للتشكل والتداول.