ليس بالضرورة أن تكون رجل دين حتى يُسمح لك أن تدلو بدلوك في قضايا تخص ديننا الحنيف، يكفي أن يكون لك رصيد يجمع بين القراءة والفهم يعززان ما ترسب فيك من إيمان فطري بالرجوع أحيانا إلى قواعد وأصول هذا الدين وأحكامه بدلا من الانحصار في قراءات ضيقة الفهم في حدود ما يوصي به بعض الفقهاء أو في حدود ما هو متداول عند عامة المسلمين المحجور عليهم أو المنساقين من وراء ما يوحى لهم من معتقد بأن ذلك هو الدين. في هذا الشهر الفضيل الذي هو محطة يجب أن تنير لنا حياتنا كما هو امتحان يجب علينا جميعا أن نستخلص منه العبر لا أن نجعل منه حدثا مناسباتيا نعطش فيه ونجوع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وندعي أننا قضينا فريضة أو ركنا من أركان الإسلام؛ فالصيام له مفهومه كما له قيمه وأحكامه وهو يتجاوز ما نعتقد أنه يقف عند الإمساك عن الشهوتين وأن ذلك مرتبط فقط بشهر رمضان الذي هو شهر أساسي ذكره الله في محكمه، بينما هو في الوقت نفسه يعد محطة لتهذيب النفس وتأهيلها لاستحقاقات أخرى يجب أن يلتزم بها المسلم على مدار العام. ولتسليط الضوء على ذلك، يجب بالأساس تحديد مفهوم الصيام. مفهوم الصيام من الناحية الشرعية اقترن بشهر رمضان، وهو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ولعل جميعنا نطبق هذا المفهوم كما جاء حرفيا في النص، ونبقى متمسكين بذلك الإمساك في حدود دائرة من جسدنا فقط لا يتحاوز قطرها شبرا من السرة إلى ما دونها. ويبقى اللسان أبعد من أن يكون صائما وكذلك العين التي لا تغض الطرف. أما الصيام لغة فهو الامتناع عن فعل الشيء أو مقاطعته، أي أن الإمساك له معنى واسع أوسع من الأكل والشرب وممارسة الجنس. ومن قوله تعالى في حكاية مريم كما جاءت في القرآن: "فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا"، بمعنى أن الإمساك عن الكلام يعد كذلك صوما. وليس أي كلام يراد به في هذا الباب فإما أن يقول الإنسان خيرا أو فليصمت. بينما النميمة أو الغيبة لا تبطلان أجر الصيام فحسب؛ بل يترتب عنهما إثم في شهر عهد فيه للملائكة بالنزول إلى الأرض. إذن، أين نحن من هذا الذي نقول عنه صياما؟ السلوكيات في مجملها كما في جزئياتها لا توحي بأننا مسلمين ملتزمين بعهدة الصيام التي تربطنا مع الله تأكيدا لحديث قدسي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". بكل تأكيد، نحن نخل بهذه العهدة في مضامينها وبالتزاماتها الحقيقية. ألستنا لا تصوم عن ذكر القول السيئ وعن التشهير بأعراض الناس في غيابهم. في هذا الشهر الفضيل الذي يفترض فيه أن يكون شهر الهدوء والسكينة وأن نتواصل فيما بيننا بالكلمة الطيبة، نكون على عكس ذلك أكثر شراسة وعنفا وفقدانا للأعصاب والتوازن وتتملكنا هستيريا على أتفه الأسباب تحت طائلة انقطاع "النيكوتين" عن الدم. وعوض أن نميط الأذى عن الطريق نفتعله فيما بيننا لخلق حالات من التوتر. نسارع إلى الفحشاء والمنكر حيث تكثر الخلوة بعد مغيب الشمس وقبيل أن يحل الهزيع الأخير من الليل في سباق مع الزمن ونحن في عجلة من أمرنا إلى الاغتسال قبل أن يرفع صوت أذان الفجر إيذانا بإيقاف المحرمات والممنوعات. وكأن شهر رمضان هو شهر لا يحث على الانضباط بعدم ارتكاب الفواحش، ولا تتجلى قدسيته إلا في الجوع والعطش. هي ثقافة من النفاق نخادع بها أنفسنا ولا نخادع بها الله وكبر مكرا عند الله أن نحرف الكلام عن موضعه. الصيام في مفهومه الواسع أي الإمساك عن الرذيلة، وهذا الإمساك لا يتوقف عند هذا الشهر الفضيل بل له من الامتدادات الفضلى بما يجري على الأشهر الحرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة وشهر محرم، وسميت بهذا الاسم لأن الله حرّم فيها القتال بين الناس. فلهذا، قيل عنها حرم وهي جمع حرام. والقتال هنا أيضا لا يقتصر مفهومه كذلك على تحريم الاقتتال في مواجهة الكفار لنشر الدعوة؛ بل يشمل كذلك فض المنازعات والخلافات بين الناس في أمر اختلفوا حوله بالمهادنة والطرق السلمية. وقد أمر الله نبيه محمد قائلا له: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، أي افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به حتى يصير المسيء الذي بينك وبينه عداوة كأنه من ملاطفتك له ولي لك من بني أعمامك قريب النسب إليك. وهذه دعوة المسلم إلى السلوك القويم يجب أن نستحضرها في حياتنا العامة وبقوة أكثر في شهر رمضان وفي ما يليه من أشهر أرادها الله أن تكون سلاما على الأمة ومناسبة لإشاعة السلم والتواصل فيما بيننا على أرضية المحبة والتودد والإحسان بالمحتاجين والمعوزين. ولنا في هذا الدين الذي أكرم الله به المسلمين ما يصحح اعوجاجنا، ولنا في إمارة المؤمنين ما يحيلنا على فهم المبادئ والقيم التي حبانا الله بها وعلى سلوكيات ما ينبغي أن يكون عليه المسلم الصالح. في هذا الشهر الفضيل تدلنا منارة إمارة المؤمنين على الإحسان الذي نبتغيه في كل عام من هذا الشهر فتمتد الأيادي البيضاء لأميرنا إلى المحتاجين في مختلف ربوع المملكة يرصد من خلالها مساعدات من التموين والمواد الغذائية لإدخال السعادة والطمأنينة في نفوس المستهدفين الحقيقيين والمستحقين من الفقراء والمحتاجين؛ فالأعمال بالنيات، ومن أمر بها فله أجر كبير عند رب العالمين، ومن أخطأ وجهتها أو حرفها عن مسارها فله عذابان في الدنيا والآخرة ولعذاب الآخرة أشد وأقوى. فإمارة المؤمنين قدوة "فاتبعوا أولي الأمر منكم"، أي الأخذ بما يأمر به الحاكم فيما يرضي الله من قبيل الإحسان. والإحسان يأتي في المرتبة الثالثة بعد الإسلام والإيمان. وشاءت اٌقدار الأمة في هذه السنة، وإلى غاية هذه اللحظة، أن يغيث أمير المؤمنين الشعب الفلسطيني المنكوب يوميا وعلى مدار خمسة أشهر خلت بجميع كل أصناف المساعدات من أغطية وأدوية ومواد تموينية وغذائية للتخفيف من معاناة الفلسطينيين الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء. وبالفعل، سارع أمير المؤمنين بكل الوسائل الممكنة إلى اختراق الحصار المضروب على قطاع غزة بالحديد والنار أن يوصل المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها بإنزالها بواسطة مظلات في مشاهد تقشعر لها الأبدان إيمانا واحتسابا. ومع حلول شهر رمضان وفي سابقة من نوعها، أصر أمير المؤمنين على أن يواصل هذا العمل في هذا الشهر العظيم ففتحت له الأبواب برا، ولم تفتح لغيره، كي تمتد أياديه الغرة البيضاء كذلك إلى أهل غزة وأهل القدس المجاورين للمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين. شهر رمضان شهر نزل فيه القرآن وفي أعظم ليلة وهي ليلة القدر وتتنزل فيها الملائكة مع سيدنا جبريل عليه السلام وليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين. فلنتخذ العبرة من الملائكة، ولنكن في هذا الشهر رحيمين بأنفسنا المريضة، ونعالجها بالتقوى، ولنكن أشد رأفة بالجار وسابع الجار بدلا من أن نتفاخر بموائدنا المثقلة وأمعاء غيرنا تغرغر من شدة الجوع.