خفت بريق الأحزاب السياسية في تونس بعد عقد من الزخم رافق بداية الانتقال الديمقراطي إبان "ثورة 2011′′، قبل أن يركنها الرئيس قيس سعيد في الزاوية بعد إطاحته بالبرلمان والنظام السياسي في 25 يوليوز 2021. وتوارت الأحزاب بشكل لافت منذ إعلان الرئيس قيس سعيد التدابير الاستثنائية في 25 يوليوز 2021، ومن ثم إرساؤه نظاما سياسيا بديلا عزز بشكل كبير من صلاحياته على رأس السلطة، في دستور وضعه بنفسه وعرضه على الاستفتاء الشعبي في 2022. وكانت مشاركة الأحزاب في الانتخابات البرلمانية المبكرة في 2022 محدودة للغاية، واقتصرت على طبقة سياسية داعمة للرئيس سعيد وأخرى وافدة على السياسة. لكن الانتكاسة السياسية لاحقا طالت غالبية الأحزاب، بما فيها "الداعمة لمسار 25 يوليوز". ويعترف زهير المغزاوي، أمين حزب "حركة الشعب" الممثل في البرلمان منذ 2011، والداعم للرئيس قيس سعيد، بتفشي موجة "شيطنة" للأحزاب بسبب أدائها في الحكم طيلة العشرية الأخيرة. وتابع المغزاوي، في تصريح لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ): "أفكار الرئيس سعيد أيضا تنطلق من نظرية إلغاء 'الأجسام الوسيطة' في الحكم، ومن بينها الأحزاب. لكن لا يجب التذرع بالقيود. الأحزاب كانت تنشط أيضا في زمن الدكتاتورية". وقال الكاتب والمحلل السياسي صلاح الدين الجورشي ل"د.ب.أ" إن إجراءات الرئيس قيس سعيد خلقت بيئة غير مواتية للعمل الحزبي والسياسي. ومنعت السلطات الأمنية "حركة النهضة الإسلامية"، منذ أبريل 2023، من تنظيم اجتماعاتها، وأغلقت جميع مقراتها في تونس، كما يقبع عدد من قيادييها البارزين، ومن بينهم زعيم الحركة راشد الغنوشي، في السجن بتهمة التآمر على أمن الدولة. وقال الجورشي: "تعاني الأحزاب أيضا من مشاكل منذ القدم لأنها لم تتأسس وتتطور في مناخ ديمقراطي، وأحيانا هي مشلولة وعاجزة عن إدارة الشأن العام؛ وقد ثبت هذا بعد ثورة 2011 عندما توفرت لها الفرصة للحكم لكنها عجزت وفشلت". وتلاشى حضور الأحزاب تدريجيا مع نظام "الحكم القاعدي" الذي أرساه الرئيس سعيد بعد 2021، بدءا بنظام انتخابي يعتمد الاقتراع على الأفراد في الانتخابات البرلمانية بدل الاقتراع على القوائم، وهو ما ضاعف من تهميش دور الأحزاب. لكن، على الجانب الآخر، يلقي محللون باللائمة على الأحزاب نفسها في انحسار دورها وضرب مصداقيتها لدى الناخبين. وأرجع الغزاوي "تآكل" الأحزاب السياسية إلى "بنيتها الهشة أصلا بدليل اندثار عدة أحزاب قبل حتى قرارات 25 يوليوز، رغم فوزها في أول انتخابات ديمقراطية في 2011′′، وزاد: "اعتمدت هذه الأحزاب على أشخاص وليس على رأس مال سياسي، لهذا اندثرت". وبعد فترة وردية أعقبت سقوط حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في 2011، بلغ فيها النشاط الحزبي ذروته، حيث ناهز عدد الأحزاب 250 حزبا حتى عام 2020، وهو عدد ضخم مقارنة بعدد السكان، جاءت الانتكاسة الكبرى في 2021. وقال الجورشي: "هناك فجوة في علاقة الأحزاب بالجمهور، الذي لم يتعود على نظام تعددي، ولذلك هو في حالة اضطراب إزاء تغير الحكومات"، وأضاف: "يتعين على الأحزاب أن تعيد بناء الثقة مع المواطنين لكسب المصداقية". وبينما يقبع قياديون بارزون من عدة أحزاب معارضة للرئيس سعيد في السجن، ومع انحسار دور الأحزاب المؤيدة للسلطة، فإن الأحزاب بشقيها باتت تواجه مصيرا مجهولا. وليس واضحا ما إذا كان هذا الوضع سيستمر طيلة حكم الرئيس سعيد الذي من المرجح أن يتقدم في خريف العام الجاري لولاية رئاسية ثانية من خمس سنوات. وقال عبيد البريكي، الأمين العام لحركة "تونس الأمام"، وهو من بين الداعمين للرئيس سعيد: "لا وجود لديمقراطية دون أحزاب سياسية". ومع أن البريكي أشار إلى مشاركة الأحزاب في محطات من خارطة الطريق التي وضعها الرئيس سعيد بعد 2021، مثل الاستشارة الوطنية حول الإصلاحات السياسية والانتخابات البرلمانية في 2022، إلا أنه لفت إلى أن "الإشكال اليوم يكمن في عدم إشراك الأحزاب في اتخاذ القرارات التي تتعلق بمصير البلاد"، وتابع: "رئيس الجمهورية لا يستمع لا لمعارضيه ولا لمسانديه". واستفاد الرئيس سعيد من اهتزاز صورة الأحزاب بعد عقد من الحكم المتعثر، وردد في خطاباته أنه يريد مكافحة الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة وتصحيح مسار ثورة 2011. وفي نوفمبر 2023 أعلنت رئاسة الحكومة حل 97 حزبا لعدم تقديمها تقاريرها المالية منذ عام 2018، من بين 150 حزبا وجهت لها تنبيهات لتسوية أوضاعها المالية. وأوضح ديوان رئاسة الحكومة أن القضاء أصدر قرارات بين عامي 2020 و2022 بحل 15 حزبا، فيما قررت 14 حزبا حل نفسها. مع ذلك لا يرى عبد اللطيف المكي، أمين عام "حزب العمل والإنجاز"، الذي أعلن عن تأسيسه رسميا في فبراير الماضي، مستقبلا مظلما للأحزاب السياسية في تونس. وقال المكي: "السلطة محاصرة بسياساتها من اعتقالات وتضييقات على الإعلام، وافتقادها رؤية اقتصادية، والأحزاب في وضع مريح كي تستأنف دورها شريطة التقييم الصارم وإصلاح العلاقة مع الرأي العام". وقال المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي ل"د.ب.أ": "يتعين على الأحزاب أن تبادر بالإصلاح وإعادة بناء نفسها أو تأسيس أحزاب جديدة تقودها قيادات شابة ببرامج سياسية". لكن الجورشي لفت أيضا إلى أن عودة الأحزاب تتطلب تصحيحا للعلاقة بين الرئيس سعيد والطبقة السياسية، مضيفا: "من دون ذلك فإن الأحزاب ستبقى عاجزة عن لعب دورها السياسي والرقابي".