"هيئة الإنصاف والمصالحة" تجربة فريدة قرر المجلس الوطني لحقوق الإنسان إحياء تداول مفاهيمها رسميّا بالاحتفال بعشرينيتها (2004-2024). ويشكل الاحتفاء بها، الجمعة، فرصة للتّذكير بالمكانة الاعتبارية التي تحتلها الهيئة ضمن "الملف الحقوقي للمغرب"، حين ارتأت البلاد أن تضع ملف الانتهاكات الجسيمة والمُمنهجة لحقوق الإنسان، بما فيها الحقّ في الحياة، ضمن "أولويات بناء دولة المؤسسات". ومن بين أبرز المشاهد التي يستقبل بها مجلس حقوق الإنسان زواره تلك المتعلقة بوضع معرض صور يسلط الضوء على هذه التجربة وعلى بعض جلسات الاستماع العمومية، وعلى مسار الرغبة في جبر الضرر، وكشف الحقيقة في العديد من القضايا التي ظلت طابوها في التداول السياسي، غير أن هذه المحطة تراهن على كشف التحول، الذي تعتبر المداخلات أنه "طرأ فعليّا في المغرب طيلة العقدين الماضيين". "تجربة غير مسبوقة" آمنة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، قالت إن "ذكرى إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، التي جرت في يناير 2004، تمثل محطة بارزة، بل فاصلة، ولبنة ضمن أسس البناء والانتقال الديمقراطي وتوطيد دولة الحق والقانون والمؤسسات"، مؤكدةً أن "هذه الذكرى تخص أيضاً مسار تتبع تنفيذ توصيات الهيئة والإصلاحات الجوهرية". وأضافت بوعياش، التي كانت شاهدة على هذه الهيئة قبل عقدين، أن "معرض الصور يكرس أثر وانعكاسات الهيئة، ويأخذنا إلى الطريق الذي اتخذه تنزيل مخرجات تقريرها، انطلاقا من فكرة التأسيس ورفع توصية الإحداث إلى الملك سنة 2003، مرورا بجلسات الاستماع وأشغال الهيئة، ووصولا إلى استقبال الأسر وتسليم المقررات للضحايا وذوي الحقوق، وتأهيل أماكن حفظ الذاكرة، وأرشفة رصيد العدالة الانتقالية بالمغرب وحفظه". وأشارت إلى أن "هذه التجربة الفريدة وغير المسبوقة في سياقنا الإقليمي إرادة جماعية تهدف إلى إعادة بناء النسيج المجتمعي والسياسي على أسس جديدة"، مضيفة "كلما تعمقنا في تحليل هذه التجربة المغربية بمقوماتها وسياقاتها، التي تجاوزت أصداؤها الحدود الجغرافية والثقافية الوطنية، زاد الاقتناع بكونها تمثل نهجا هادئا ورصينا وممارسة فضلى حقيقية". وتابعت قائلة: "كما نجحنا في بلورة نموذجنا الخاص، الذي أصبح يشكل بتطوراته وانعكاساته وأثره مرجعا لتجارب لاحقة عديدة. نجحنا في المجلس الوطني لحقوق الإنسان، باعتبارنا مكلفين بتتبع تنفيذ توصيات "هيئة الإنصاف والمصالحة"، في مواكبة عائلات الضحايا في إعداد الملفات وتسليم المقررات التحكيمية للضحايا وذوي الحقوق الذين صدرت لهم توصية من الهيئة بذلك". "انخراط مؤسساتي" محمد الدخيسي، المدير المركزي للشرطة القضائية بالمديرية العامة للأمن الوطني، قال إن "هذه الهيئة وأهميتها في تكريس دولة المؤسسات والحق والقانون بوّأت بلادنا الريادة على المستوى الدولي وفي محيطها العربي والإفريقي تحت قيادة الملك محمد السادس"، مشيراً إلى أن "هذه الوقفة مهمة اليوم لاستعراض مسار بناء الدولة المعاصرة المبنية على احترام الحقوق والحريات، وجعلها أساساً للحكامة في جميع القطاعات وعلى جميع الأصعدة". وذكّر الدخيسي، في كلمته، ب"الوجاهة التي تحتلها هذه التجربة، بمباركة من الملك الذي أبى إلا أن يصادق على التوصيات التي توصلت إليها"، مؤكداً أن "المؤسسة الأمنية منذ توصلها بمخرجات الهيئة، انخرطت في حدود المهام والوظائف الموكولة إليها، وواكبت الأوراش الكبرى، من قبيل ورش ترشيد الحكامة الأمنية بجميع متطلباته، وإعادة هيكلة قطاع الأمن، واعتماد قواعد الحكامة في جميع مجالات العمل الأمني، واعتماد شراكات مع المؤسسات الحقوقية". وأبرز أن الجهات الأمنية انخرطت في مسار التكوين والتكوين المستمر لأطرها فيما يخص التربية على ثقافة حقوق الإنسان، لافتا في السياق ذاته إلى أن "الجهود المبذولة من طرف المؤسسة الأمنية في سبيل تنفيذ التوصيات المتعلقة بالحكامة الأمنية تكللت بالرفع من قدرات المنتسبين إليها في مجال النهوض بحقوق الإنسان، واعتبارها رافعة أساسية في العمل الأمني الميداني مع اعتماد اقتران المسؤولية بالمحاسبة". مسار متجذر مبارك بودرقة، عضو "هيئة الإنصاف والمصالحة"، أوضح أن "الذكرى العشرينية لهذه الهيئة تجعلنا نستحضر مهامها، التي راهنت على كشف الحقيقة ومعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان منذ سنة 1656 حتى سنة 1999′′، مؤكداً أن "عمل الهيئة كان مهما، حيث تلقينا ما يزيد عن 20 ألف ملف، عملنا على البتّ فيها كلها، حيث درسناها واستمعنا إلى الضحايا وحاولنا أن نكون منصفين بحثاً عن الحقيقة". وقال بودرقة، في تصريح للصحافة، إن "التجربة حاولت أن تطوي الصفحة وتعوّض الضحايا، ولا نتحدث عن التعويض بمعناه المادي، فهذا غير وارد، بما أن دكّ الكرامة الذي حدث ومحقها لا يمكن تعويضه بأي ثمن، بينما التعويض الذي ترافعنا عنه رمزي حصراً"، مشيرا إلى أن "الهيئة قدمت تقريرها إلى الملك في نونبر 2005، وكانت ضمن هذا التقرير فقرة مهمة متصلة بالتوصيات كالإصلاحات الدستورية والقضائية والإصلاح الأمني والشفافية في الممارسات وإرساء دولة الحق والقانون..". ولفت اليساريّ، الذي كان النضال ضد النظام جزءا من قلبه وعقله، إلى أن "الخطاب الملكي في مارس 2011 أعطى هذه التوصيات بعدا دستوريا، ووصفها بالوجيهة، وهذه سابقة في الوطن العربي والإسلامي"، مذكرا بأن "التونسيين حاولوا إنجاز هذه التجربة، لكنها فشلت، وصار المغرب مستفردا بهذا النموذج، وهو ما جعلنا نجني ثماره في انتخاب المغرب رئيساً لمجلس حقوق الإنسان الأممي". وبعدما تمنى أن "يكون انتخاب المغرب مدخلا للمزيد من الديمقراطية ومن مناخ حقوق الإنسان لضمان سعادة الشعب المغربي"، أجاب بودرقة، المعروف ب"عباس"، عن سؤال لهسبريس بخصوص استمرار عقوبة الإعدام رغم أنها من توصيات التقرير، قائلا: "منذ 1993 ليس هناك تنفيذ لهذه العقوبة، وهذه خطوة أولى تجعل الأرضية خصبة، في انتظار أن يكون هناك إجماع حول الإلغاء". وشكل النشاط الذي احتضنه فضاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالرباط فرصة لاستعادة الذاكرة بالنسبة للعديد ممن عايشوا إطلاق "هيئة الإنصاف والمصالحة"، التي كانت رصيداً حقوقيا عاليا ما زالت بعض توصياته تنتظر التفعيل والتنفيذ. وحضر اللقاء المستشار الملكي أندري أزولاي، ووزيرة الأسرة والتضامن عواطف حيار، إضافة إلى وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات يونس السكوري. كما عرف اللقاء حضور محمد عبد النبوي، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والحسن الداكي، رئيس النيابة العامة، وهو ما منح اللقاء بعدا إنسانيا واجتماعيا، بوصفه شقّا من ذاكرة مشتركة. كما حضر أيضا بعض أفراد العائلات وذوي حقوق الضحايا، وشاهدوا جميعا فيلما وثائقيّا يحاكي مسار 20 سنة من تكريس حقوق الإنسان في أضلع الدولة المغربية، وفق تعبير الحاضرين.