إنّ ما نشاهده في الفضائيات العربية والأجنبية وكذا في التلفزيونات الوطنية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، من تقتيل وتهجير وتجويع لسكان قطاع غزة الذي لا يمكن فصله عن أرض فلسطين. وما يراه الإنسان اليوم، أينما يوجد في العالم من تدمير وتخريب لجزأ من هذه الأرض الفلسطينية واقتلاع لأشجار الزيتون وتدمير لبنياتها التحتية وهدم لبيوت سكانها الأصليين (...) يؤكّد بما لا يدعو إلى ريب أننا نعيش فعلا مرحلة جديدة من مراحل العولمة، عنوانها: موت إنسانية الإنسان. ويتم كل هذا الدمار والخراب في خرق سافر للقانون الدولي الإنساني وللميثاق العالمي لحقوق الإنسان. ويجسّد بالملموس عدم وفاء صنّاع العولمة أنفسهم بما وعدوا به في بداية التسعينيات من القرن الماضي. واستحضارا للبعد الإنساني وللخلفية الحقوقية العالمية، دعنا نتساءل معا: ما هي الأدلة القانونية عما تقدم قوله، وما هي تجليات الإخلال بالوعود التي قدّمها صناع العولمة؟ في خرق القانون الدولي الإنساني والميثاق العالمي لحقوق الإنسان مما تنص عليه الوثيقة الصادرة عن الصليب الأحمر الدولي في باب قواعد القانون الدولي الإنساني الأساسية، أنّه يجب على أطراف النزاع في كل الأوقات التمييز بين المدنيين والمقاتلين بغية تجنّب إلحاق الأضرار بالسكان المدنيين وبالممتلكات المدنية. ولا يجوز مهاجمة السكان المدنيين في مجموعهم ولا المدنيين كأفراد. ويمكن شنّ الهجمات فحسب ضد الأهداف العسكرية. وليس لدى الأطراف في أي نزاع حق غير مقيّد في اختيار أساليب أو وسائل الحرب. ويٌحظر استخدام أسلحة أو أساليب حرب عشوائية الأثر، مثل استخدام تلك الأسلحة والأساليب التي يٌحتمل أن تسبّب أضرارا زائدة أو آلاما لا لزوم لها. ومما ينص عليه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان أنّ "لكل فرد حق في الحياة والحرية، وفي الأمان على شخصه". وبذلك، فالحياة تعدّ حقّا أساسيا من حقوق الإنسان، وحق الحياة مقدس. وينص هذا الميثاق كذلك على أنّه "لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه (...) ولا لحملات تمسّ شرفه وسمعته، ولكل شخص حق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل أو تلك الحملات". إن القراءة المتمعنة في ما تقدم أعلاه من قواعد واضحة حتى لغير المختص في القانون وغيرها كثير مما ينص عليه القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العام والميثاق العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدوليات المتعلقة بحقوق الإنسان، تبيّن بجلاء مدى الخرق السافر لهذه القواعد في أرض فلسطين منذ بداية الحرب على غزة. وقد اقترب عدد الشهداء الفلسطينيين من "ال 22 ألفا" إلى حدود كتابة هذه الأسطر، دون احتساب من لم يتم العتور عن جثثهم لحد الآن. علاوة على العدد الكبير جدا للجرحى كل يوم وعلى تدمير المستشفيات وقتل المسنين والأطفال الرضع. كما استشهد العديد من الصحفيين وهم يزاولون مهامهم الإعلامية. ويعيش حياة النزوح حتى اللحظة نحو 90 بالمائة من سكان غزة حسب موقع ل"الجزيرة" على الإنترنت. ومن جانب آخر فإن صناع العولمة لم يفوا (من الوفاء) بوعودهم الرنّانة في بداية التسعينيات من القرن الماضي. فما هي الأدلة على ذلك؟ الإخلال بالوعود... بعد سقوط جدار برلين ومعه المنظومة الشيوعية في (1989/1990)، استبشر الناس خيرا في الوطن العربي وإفريقيا وباقي دول الجنوب، خاصة بعدما تلقّوا الوعود المبشّرة بعالم يغدق غنى في دول الشمال والجنوب من طرف صناع العولمة في الغرب وعلى رأسهم الولاياتالمتحدةالأمريكية. وفي هذا السياق، أكّد "روبيرت رايخ " (Robert Reich) عالم الاقتصاد ورجل السياسة الأمريكي في كتابه "الاقتصاد المعولم" الصادر في 1993، أن التطورات العميقة التي سيعرفها الاقتصاد العالمي، ستعيد تركيب ساكنة العالم واقتصاد القرن ال 21، فلن تبقى منتوجات وطنية ولن تبقى شركات ولا صناعات وطنية، ولن يبقى اقتصاد وطني. سيبقى عنصر واحد بداخل حدود كل بلد: الأفراد الذين يشكلون الأمة. وسيصبح المحدد الرئيسي لوجود كل أمة هو الكفاءات ومثابرة المواطنين. ومما نستنتجه من ذلك أن تنزيل هذه الرؤية، رؤية صناع العولمة، سيؤدي بطبيعة الحال إلى انخفاض تكلفة المنتوجات الوطنية والأجنبية وسترتفع بالنتيجة القدرة الشرائية للناس في دول الشمال والجنوب على حد سواء في عالم معولم يهدف صناعه إلى تحقيق رفاهية الإنسان وتمتيعه بمختلف حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتمكينه من حقه في التعبير وحرية التفكير، كما "تغنّت" بذلك الأدبيات الليبرالية وقت الحرب الباردة. وحسب تقرير البنك الدولي الصادر في 17 أكتوبر 2018، فإن القضاء على الفقر يبقى تحديا ضخما رغم التراجع الكبير في معدلاته، فأكثر من 1.9 مليار شخص أو 26.2 في المائة من سكان العالم كانوا يعيشون بأقل من 3.2 دولار في اليوم سنة 2015. كما أن نحو 465 بالمئة من سكان العالم يعيشون بأقل من 5.5 دولار للفرد في اليوم. وحسب مجموعة البنك الدولي فإنه على الرغم من استئناف معدل الفقر العالمي في الآونة الأخيرة مساره النزولي الذي كان سائدا قبل جائحة كورونا، فإن عدد الفقراء المدقعين قد يرتفع بما يتراوح بين 75 مليونا و95 مليون شخص في عام 2022 مقارنة بتوقعات ما قبل الجائحة، وذلك بسبب الآثار المستمرة للجائحة وكذا الحرب الروسية / الأوكرانية، وتصاعد معدلات التضخم. ما تقدم وغيره كثير يبين مدى وأهمية الوعود المقدّمة من طرف صناع العولمة، ويوحي بأنّ هنالك اهتماما جديا بقضايا التخلف والجوع والعطش والفقر في دول الجنوب بصفة خاصة. لكن، ما الذي وقع حقيقة في العالم وهو يسير على رجل واحدة في غياب الأقطاب المنافسة دوليا؟ للإجابة على هذا السؤال، يكفي أن نتأمل في ما يقع منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين: حروب مدمّرة في مختلف بقاع العالم بدءا بالعراق؛ مشروع الشرق أوسط الكبير أو الأكبر على الوجه الأصح الذي بدأ إحياؤه في السنوات الأخيرة بتتبع حثيت من لدن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي يبدو أنّها تخطط في الآن ذاته لمرحلة جديدة من مراحل العولمة -ربما ستبتدأ بعد نهاية الحرب على غزة أو بعد نهاية الحرب الروسية / الأوكرانية التي عرفنا متى ابتدأت ولا نعرف متى ستنتهي-؛ الصراعات الطائفية داخل البلد العربي الواحد؛ قتل الأبرياء في العديد من مناطق العالمين الإسلامي والغربي واليوم في فلسطين؛ انتشار ثقافة استهلاك المأكولات والموسيقى الساقطة والدراجات النارية وأفلام العنف اللفظي والجسدي(...) وانتشار التطرف شمالا وجنوبا. ونسجل الآن، تحذيرات الأممالمتحدة من الموت بالجوع والعطش والمرض في قطاع غزة. وقد انتصرت قيم الوصولية (l'arrivisme) والانتهازية والربحية التي دعا ومازال يدعو لها أنصار اقتصاد السوق في العالم. وتم تهميش تدريس مواد الفلسفة والاجتماع والتاريخ في العديد من الأنظمة التعليمية العربية خاصة، وهو قرار أفضى إلى عكس ما كان ينتظره صنّاعه. إنّ ما تقدم قد يبدو للبعض أنه وصف واقعي لما نعيشه خاصة في دول الجنوب منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي وهو بداية المرحلة الجديدة من مراحل العولمة. وقد يختلف معه البعض الآخر ومن حقه ذلك. لكن مهما تبلغ درجة الاختلاف بين الطرفين، فإن النظرة المجرّدة لما وقع وما يقع منذ سقوط جدار برلين لحد الآن، توحي بأننا نعيش اليوم أكثر من أي وقت مضى وبالملموس، موت إنسانية الإنسان في هذه المرحلة من زمن العولمة. وتتجسّد الأدلة في تقتيل الأبرياء بل في الإبادة الجماعية لسكان غزة، وتهجير الشباب والمسنين والرضع من أرضهم الأصلية، وذلك أمام أنظار العالم. وهو واقع يؤشّر -في نظرنا- على أنّ ما بعد الحرب على غزة ليس هو ما قبلها في منطقة الشرق الأوسط خاصة. ولا سبيل إلى المقاومة والصمود لرفع تحديات ورهانات المستقبل القريب والبعيد بالنسبة للعرب والمسلمين في العالم إلا تقوية الاتحادات والتكتلات العربية والإسلامية الاقتصادية والتجارية والسياسية، وبالموازاة مع ذلك ضرورة اعتماد الديبلوماسية والتفاوض لحل النزاعات الداخلية والإقليمية والدولية. ولا سبيل إلى رفع هذه التحديات الاستراتيجية، غير تخصيص اعتمادات سنوية مهمة للبحوث العلمية في كل دولة من الدول العربية والإسلامية، فلا تقدم إلا بالعلم. ولا يعني ذلك عدم الانفتاح على الاقتصاد العالمي. وأخيرا، يبدو أن معالم قطب عالمي جديد بدأت تتضح. ولا نفهم من ذلك نهاية منظومة العولمة بل ما نفهمه هو قد تتغير قواعد لعبتها نظرا لقوة المنافس أو المنافسين الجدد على الزعامة الاقتصادية والجيوسياسية العالمية.