مع "الحراك التعليمي" الذي أطلق شرارته إصدار النظام الأساسي الجديد منذ الأسبوع الأول من أكتوبر الماضي، شهد قطاع التربية والتكوين -ولا يزال- مخاضا عسيرا لا يمكن التنبؤ بنهايته، مخاض أسفر عن ضياع ثلاثة أشهر من الزمن المدرسي، وكشف حجم التراكمات في تسوية الملفات داخل الوزارة، ثم تشعب الاختلالات والخروقات التي تميز هذا القطاع الحيوي، وبالتالي تناسل الإخفاقات التي ظلت العنوان الرئيسي للمدرسة المغربية منذ عقود مديدة. لن نخوض في هذا المقام لا في تقييم "الحراك" ولا تقويمه، بل سنحاول تسليط الضوء على حيثيات إحدى الملفات الحارقة التي طفت -إلى جانب أخرى- إلى سطح النقاش بين الوزارة/ اللجنة الثلاثية وشركائها، وما انتهى إليه الطرفان في جلساتهما المضنية والمطنبة. إنه ملف دكاترة قطاع التربية الوطنية، والذي يعتبر محكا حقيقيا لمعرفة مدى وعي الوزارة بتأهيل موظفيها وحجم جديتها في إنصاف رجال ونساء التعليم، وعزمها على طي ملف عمر لسنين طويلة. بداية، وجب التأكيد على أن ملف الدكاترة ليس عصيا على الحل لكونه شائكا يحتمل القراءات المختلفة، ولا مكلفا يستلزم ميزانيات ضخمة على غرار ملفات أخرى تم حسمها، بل أريد له أن يعمر أكثر فأكثر لدواع يتم التكتم عليها والقفز على حقيقتها، وما مخرجات الحوار الماراثوني للوزارة/ اللجنة الثلاثية وشركائها النقابيين إلا دليل آخر على التلكؤ في التسوية النهائية والمنصفة، حيث تم اختيار نهج سياسة الهروب إلى الأمام، والتملص المكشوف من المسؤولية الأخلاقية والدستورية في حل الملف. لن نختلف حول القيمة الرمزية للدكتوراه ولحاملها، فهي أعلى رتبه علمية وأكاديمية يمكن بلوغها في السلم العلمي والأكاديمي، الدكتوراه تتويج لمسار طويل يشقه "ذوو العزيمة" ممن آمنوا بقدراتهم ومشاريعهم وضحوا تضحيات جسام، إنها تحد رفعه "أهل البحث والنبش" في دقائق الأمور ممن عاهدوا أنفسهم على البحث والتأمل والتحليل ليال طوال دون كلل ولا ملل، وهي غاية كبرى وتتويج عظيم لن يبلغه إلا من آثر التميز ووثق بنفسه وعزم على قهر الهوى. لقد كان حريا بالوزارة طي الملف إنصافا لدكاترة القطاع، إنصافا لهؤلاء الذين تكبدوا كل أشكال العناء، وتشجيعا لغيرهم من رجالات التربية والتكوين على الجد والاجتهاد الانخراط في البحث العلمي الرصين، ثم إرساء للحكامة التي لا شك أنها أحد أقوى الشعارات التي تتردد على مسامعنا في كل إصلاح تباشره الوزارة المعنية. بكل حرقة، لا يمكن أن يفهم هذا الإصرار على تأجيل طي ملف الدكاترة خارج دائرة العناد والتحجر في أحسن الظنون، بل لا يمكن أن يفهم خارج دائرة الفساد. فالقيمون على القرار لا يريدون منح الدكاترة المناصب ولا المراتب التي يستحقونها، ويصنعون بذلك هامشا متزايدا للزبونية والمحسوبية، التي تتكلم لغة الولاءات السياسية والقبلية ثم الإرضاءات في إطار تبادل المصالح. يريدوننا دكاترة في البوادي الهامشية والقرى النائية حتى يتسنى للمحظوظين ممن ولجوا القاعات المكيفة والمكاتب الفاخرة بطرق ملتوية الحفاظ على مكتسباتهم، وصد أبواب المنافسة أمام غيرهم. بصفتنا دكاترة قطاع التربية الوطنية، نعتقد أننا نهدد الريع الذي ينخر مؤسسات التكوين التي تأوي أعدادا كبيرة من "محظوظي الأمة" ممن انخرطوا في العمل السياسي أو النقابي أو حتى الجمعوي أحيانا، ونجحوا في أن يجدوا لأنفسهم موطئ قدم داخل هذه المؤسسات بغير وجه حق، وها هي الوزارة/ اللجنة الثلاثية نفسها وشركاؤها يفتحون الباب لتغيير الإطار بطلب خطي فقط أحيانا، بل ويبتدعون "إطارات مطاطية" لا تخطر على بال أحد، إرضاء لأطراف تعد على رؤوس الأصابع، بينما تشترط المباراة ونوعية الخصاص لحامل الشهادات العليا ودكاترة القطاع، في أبهى تجل للعبث والعبثية. لا نقول إننا نرفض المباراة سعيا وراء "مكتسب مجاني"، ولا نريد أن يفهم من كلامنا أن تخوفنا من المباراة من باب عدم الثقة في قدراتنا، بل لقطع الطريق أمام كل الطرق الملتوية وضمانا لتكافؤ الفرص وإعمالا للحكامة والشفافية. لقد كان على الوزارة/ اللجنة الثلاثية فتح باب تغيير الإطار أمام كل المعنيين، مع اشتراط -في حال الضرورة القصوى- الاحتفاظ على المنصب الحالي إذا كان الدافع الحقيقي هو إكراه الخصاص والتخصص، ونكاد نجزم أن عددا كبيرا، إن لم نقل جل الدكاترة سيرضون بهذا الحل ما دام يراعي مصلحة المعني في علاقته بمساره المهني والإداري، وكذا مصلحة الإدارة في استقرار واستمرار المرفق العام، في انتظار فتح آفاق جديده أمام الدكاترة.