إن احد ابرز الأهداف التي تناضل من اجلها الشعوب باستماتة هي استقلال أوطانها، كما أن ابرز ما تنادي به الشعوب المستعمرة خلال كفاحها ضد المحتل هو الحرية. و في خضم مثل هده الأحداث، إذا حدث و سئل احد من الجماهير الغفيرة التي تتجند للدفاع عن وطنها و مواطنها عن معنى "الاستقلال" لقال بدون تردد انه هو إبعاد الحكم الاستعماري عن البلد و تمتع سلطة محلية بحق تسيير شؤون الرعية و البلاد، و إذا ما سئل عن "الحرية" لأجاب في الحين أن الحرية هي الإنعتاق من سيطرة القوى المستعمرة و إبعادها. "" وقبل التطرق إلى موضوع المغرب كدولة كانت محتلة و استقلت، و دور السلطة البديلة عن السلطة الاستعمارية في تسيير شؤون كل من الرعية و البلاد و توفير الحرية، تبقى وقفة سريعة عند مفهوم الاستقلال و الحرية لدى العوام من الناس ضرورية. انطلاقا من الأجوبة الافتراضية، التي هي في الواقع حقيقية، للجماهير التي تتدافع من اجل استقلال بلدانها و نيل الحرية، يبدو أن مفهوم الاستقلال و الحرية لدى الجماهير تشوبه مغالطات كبرى. المغالطة الأولى هو أن مفهوم الاستقلال يعني بكل بساطة تغيير سلطة حاكمة بأخرى مع إغفال تام لأهداف هده السلطة و الفروق البراكماتية الواضحة التي لابد و أن تكون معيارا لقياس صلاحها. فلا يكفي مثلا أن نسمي الاستقلال استقلالا إدا بُدلت سلطة ما بأخرى مثلها أو أسوأ منها. لان في هده الحال سوف يكون الكفاح الطويل الذي دهب ضحيته العديد من الناس بدون معنى، و لن يكون لمعاناتهم المريرة هدف سوى إبدال "حمار" ب "أغيول" كما يقال بدارجة شعبية. المغالطة الثانية تتمثل في كون كل أولئك الدين يدافعون عن الحرية لا يدرون في واقع الأمر أي حرية هم بصدد الدفاع عنها، مما يؤكد من ناحية أن جل ممن يسمون مناضلين إما لا يعون ما هي الحريات التي يناضلون من اجلها قطعا و هم بالتالي أغبياء و سدج، أو أنهم انتهازيون يستغلون الفوضى القائمة من اجل أهداف أخرى لا تمت بصلة إلى الحرية التي ما هي إلا شعار يتم التغذي عليه لحشد المزيد من الكفاح الأعمى. وعنه يمكن استنتاج ما يلي: إذا كانت القوى المستعمرة تسلب الشعوب المستعمرَة من مجموعة من الحقوق كما توفر لها في نفس الوقت مجموعة من الامتيازات فما الفرق بينها و بين سلطة منبثقة محليا توفر و تسلب نفس الشروط و الامتيازات. و ما جدوى الصراع و النضال في هده الحال. و التفسير الوحيد لمثل هده المفارقة هو أن الثورة ضد المحتل تقوم بتشجيع و تخطيط من طرف قلة من المحليين الدين يرون في الاستقلال فرصة سانحة للسيطرة على مكانة القوة المستعمِرة و امتيازاتها بينما تبقى الجماهير أو ما يسمى ب "بوزبال" فيما هي عليه من حال التخلف و الجهل و المرض و السيبة. حوالي نصف قرن من الاستقلال قد مرت على المغرب كبلد و على المغاربة كشعب و مازال الحال كما كان عليه في عهد الاستعمار أو أسوا. فبعد طرد المستعمر من المغرب حلم الكثير من أجدادنا بالتغيير و كم تشبثوا بحلم أن البلد سائر في طريق النماء و التطور. لكن و بعد حوالي نصف قرن من الزمن أو أكثر ها نحن نكتشف أن مسالة التقدم ما كانت إلا خدعة أو حبوب نوم كم تغنت بها جهات و لازالت تتغنى بها لعل و عسى أن تنوم المزيد. لقد وجد الكثير من أجدادنا بعد مضي حوالي ستون عاما بأنهم عاشوا وهما كبيرا اسمه الحرية، و الاستقلال، و الرخاء، و الازدهار، و انتشار المساواة و العدالة بين الناس، و تناثر فرص العمل للجميع، و المداخيل المرتفعة، و تحسن مستوى العيش. لقد أدركوا بعد مرور حوالي نصف قرن أن التقدم الذي توهموا انه حاصل لا محالة ما كان إلا شعارا و ظاهرة صوتية. فبعدما اصطدموا بالتنكر التام لجهادهم و كفاحهم الشهم في الجبال كما في المنخفضات، و اصطدموا بالمعاشات الهزيلة، و المستشفيات التي تطردهم شر طردة، و الإدارات التي لا تقضي مصالحهم إلا بتدويرة، و بالسلطات التي تسكنهم كاريانات من القسدير و تعود لتخليهم منها ... علموا قطعا أن العمر ضاع و لا سبيل إلى تناسي آلام التفكير فيه و في الحكرة إلا حمد الله صباح مساء. لكن على جيل اليوم أن يستخلص الدرس، أو كما يقال بالفرنسية "لا مورال"،. و "مورال" هذه التجربة هي بالطبع ليس شيء آخر سوى عدم الثقة في الأحزاب التي ادعت عبر الزمن أنها خير ممثل للشعب الذي يفوضها أمره لتنوب عنه في كل شيء. و بما أن الأحزاب طبعا تنكرت عبر الزمن للأجداد و مازالت تبغي المزيد من التنكر لجيل اليوم، فان جوابها الشافي هو في مقاطعة الانتخابات، و ما حصل خلال الانتخابات الماضية من هجر لساحة الأحزاب لهو خير دليل على أن لعبة الاستغلال لم تعد تنطلي إلا على القلة التي هي نفسها تعي الكذبة جيدا و ما تصوت إلا لأغراض معينة. أبشع ما يمكن أن يكتشفه المرء و لا يغفره لمقترفه أبد الدهر هو الاستغلال. فحذار من قوم استغلوا قوما ً بلا هوادة و مازالوا يبغون الاستغلال في واضح النهار، بل ينوون تمرير مراكز الاستغلال لحفدة أو زمرة من القيادات التي ما هي إلا تربية و نشأ نما و ترعرع في ظل الآلة الاستغلالية للأحزاب.