"إن رجال السياسة يصنعون الزمن الجماعي على مرآة زمنهم الفردي، أما رجال الفكر فينحتون زمنهم الفردي على مقاس الزمن الجماعي" عبد السلام المسدي. عن حال الكتابة عندي أتحدث. فقد أجد نفسي موغلا في العزلة، وتصيبني كآبة تجاه العالم والمحيط. لا تثيرني شهية الكتابة كما اعتدت كل صباح، أو عند ارتشاف كأس شاي، في خلوتي الخاصة. هاته الفواجع والمآسي المتراصة، تشاغب ظلي، وتتعب أفكاري المليئة بالثقوب والمرائي الثقيلة. تسحبني مشاهد البؤس والبكاء والدم، في مقامع الزلزال الأخير في مراكش وأحوازها، والحرب على أهلنا في غزة العزة، وقبلها الزمان الكوروني المقبور. أي كتابة تلك، ستمسح نذوب النفس وجراحات الثكلى؟ وأي أمل سيعيد جذوة الحياة، بعد زحام الألم والقسوة والحزن؟ سيسألني سائل، عن جدوى الكتابة، بعد كل هذا الجنون والفوضى، وسأقول له، إنني أجزم بكون التفكير انعكاس حقيقي لتجربة الكتابة، بينما التفسير المضطرب لعدميتها هو نتاج السقوط الحتمي والغرق في اللاجدوى، والوصول إلى النهاية.. الأرواح المغدورة في كل الأنحاء البشرية، تسائل ضمائرنا، وتقيد الأفكار المنذورة للخيال المسجى بأوثاق الزمن. نتلهى في الوطن المنتظر، في الدروب الطويلة، على أهبة كل حين، دون أن نيأس من تقعر العمر واندلاقاته.. نستعيد في الخلفيات التاريخية وجذورها الثقافية والحضارية، أورام الشرور الإنسانية وأحقادها، ومثبطاتها والصدوع المترامية عبر سيرورات الحروب الطاحنة والأطماع المستعصية وجنون الاستبداد والسيطرة، فلا يعكس استحضارها سوى التأبيد المروع الناقم على السلام الروحي والتواصل الإنساني والمثاقفاتي، غير الانغماس الطوعي والساكت في خرسانة النزيف الداخلي لأمشاجنا وندوبنا، في مسلكيتها وطريقها الغامضة والملتبسة؟ إن عواصف التغيير التي نشبت أظافرها فينا، وما عادت تترك لنا فرصة للتفكير والتروي وشيئا من التأمل، أناخت اللثام عن قهريتنا ومرضيتنا في مداواة يقيننا المعلول، ولاهويتنا المنخرمة، وتذبذبنا في الإبقاء على كوة ضوء في مفترق أدائنا لمهمة الأرض ورسالتها القيمية. إنه لا سبيل لفضاء العيش المشترك بين بني الجلدة والعقل، سوى الأمان الأصيل، والوجود المؤتمن الأقدر على تمكين أخلاق الحرية والمساواة والعدالة، من إبعاد كل قذارات الخوف والإظلام وانتهاك الحقوق والإبادة. ومن أبلغ انتقاء لهذه المبادئ السامية، والقيم المجيبة على أسئلة الراهن والوجود، يكسر ثنائيات التناقض والتأويل السياسوي والحربي، ويدرأ عن وشاح التفكير الحر واليقظ، مخالفا كوابيس التصنيف الضدي القاتل والمنتهك لحقوق البشرية في العيش بكرامة والاستقلال المصيري الموقن بالائتمان والسلام والمحبة. إنه في حدود الأنظمة الإطلاقية للتيه والجنوح نحو القوة والسيطرة، كان وسيظل هناك، متحالفون ضد رعاتها ومتنفذيها، يقاتلون بالأفكار والثقافات، ما شذ ونشز، ويبادرون إلى توسيع ثمرات الفضائل والمكارم وقيم الإخلاص للحوار والاصطبار والتحول الإيجابي والإيثار الوجداني والتمنطق بالعقلانية. ولا يزال هذا الانتماء، في حدود هذه العلامات القيمية الواعية بأدوار ووظائف المثقفين، مندغما في إواليات ما أطلق عليه بيار بورديو "رأس المال الثقافي للشعوب.. حيث ينثني وجود القيمة بالإصغاء والاقتراب ومباشرة الإصلاح". فهل تحول تقاطعات هذا الهم، وتجافيها بين الإدغام والإبهام، دون تحقيق مناط تكسير مواطن الخلل وانعدام الرؤية، في تدوير أنساق الثقافة وأدوارها لدى المثقفين وصناع الفكر، حيث تختفي مسؤولية الكتابة والإبداع، بالتعتيم على مناهجها ونهوجها، والإقصاء الجبري والتجهيلي لمراميها وآثارها في الحضارة والعمران؟