تقدم برلمانيو فريق الأصالة والمعاصرة في مجلس النواب بمقترح قانون لتجريم "التكفير" وتعديل بعض المقتضيات من القانون الجنائي، الفصل 442 تحديدا، ليصبح "التكفير" مصنفا ضمن جرائم القذف. فما هي خلفية هذا المقترح، الذي تم إعداده داخل "بيت الحكمة" وليس داخل الأجهزة القيادية للحزب؟ الخلفية واضحة، فمن جهة هناك رغبة في مسايرة النموذج التونسي، الذي أقرّ في دستوره الجديد "تجريم التكفير"، وهناك، من جهة ثانية، رغبة لتوظيف هذا المقتضى القانوني الجديد لتطويق التيار المحافظ، خاصة التيار السلفي، الذي يحتاج إلى "سيف ديموقليس" لئلا يخرج عن الطوق. لكنّ الإشكال هو أن هذا المقترح لم يراع الاختلاف الواضح بين طبيعة النظام في تونس وطبيعة النظام في المغرب. فبلدنا تحكمه ملكية تستمدّ نفوذها من الشرعية الدينية، بمؤسسة محورية اسمها "إمارة المؤمنين"، والدستور في الفصل ال41 ضمن حصريا للملك، باعتباره أميرا للمؤمنين، هذا الاختصاص الديني. فماذا يعني هذا؟ يعني أن "التكفير" هو حكم شرعي في المقام الأول ولا يمكن أن يصدر بمقتضى النصوص الدستورية إلا من الجهة ذات الاختصاص، أي مؤسسة الإفتاء، التي تعتبر -حسب نص الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس خلال ترؤسه للمجلس العلمي الأعلى- المرجعية التي تختصّ وحدها بإصدار الفتاوى الشرعية. بصيغة أخرى أكثر وضوحا، ف"التكفير"، كما الإيمان، مفاهيم دينية لا اختصاص للبرلمان في التشريع فيها، إلا إذا صدر ما يستلزم ذلك من المؤسسة المعنية، أي مؤسسة الإفتاء. وهذا ما استوعبته جيدا المندوبية الوزارية عندما طلبت، في وقت سابق، رأي المجلس العلمي الأعلى في قضية حكم المرتدّ.. ولذلك، فما من شكّ أن مقترح "البام" حول "تجريم التكفير" هو في الأصل تدخل في أمر ديني سيادي حصر الدستور مجال اختصاصه في "إمارة المؤمنين"، التي خولت -بدورها- للمجلس العلمي الأعلى مهمة محاربة التطرّف والغلو والانغلاق والتشدد. وهذه قضية أخرى، لأننا لم نر أي مبادرات قوية من هذا المجلس في مجال محاربة التطرف الديني، بل إن المجلس العلمي الأعلى التزم صمت القبور في قضية "أبو النعيم". ولأنّ "التكفير" يدخل ضمن "حزمة الأحكام الدينية"، فإن إقحام البرلمان في هذا الشأن سيمنح له صلاحية جديدة لم يخولها له الدستور، وسيفتح النافذة لتماس خطير في الاختصاصات وافتئات أكبر على مؤسسة "إمارة المؤمنين" ويمكن، مع مرور الوقت، أن تتوسع دائرة المطالب ويصير التشريع في الشّأن الديني مطلبا دستوريا، مما سيشكل خطورة كبيرة على مقومات الوحدة الجامعة، إذ سيصبح الشأن الديني أمرا حزبيا تتدافع فيه الأغلبية مع الأقلية، وستستقوي الأغلبية -كيفما كان نوعها- بهذا الشأن، وسينتهي المغرب إلى تحزيب الشأن الديني، ما سيفضي -بالضرورة- إلى زعزعة "إمارة المؤمنين"، وربما إلى إضعاف المؤسسة الملكية.. هناك أمر آخر لا بد من طرحه: تكييف مقترح "البام" ل"التكفير" باعتباره جزءا لا يتجزّأ من القذف فيه تعسف كبير، لأن جميع ما أدخله المشرّع المغربي ضمن مفهوم القذف متعلق بالعِرض والسمعة، فيما "التكفير" يتعلق بالمعتقد. وهنا تنتصب علامة استفهام غامضة إذا ما علمنا أن أصحاب المقترح هم من دعاة "ضرورة تنصيص الدستور على حرية المعتقد"، أي أنه في الوقت الذي يتبنى أصحاب هذا المقترح "حرية المعتقد"، فإنهم يجرّمون الحكم على الخروج من معتقد إلى معتقد آخر، وهذا عين التناقض. وحتى لا يُفهم من هذا الحديث أن كاتب هذه السطور يدافع عن "التكفير"، لأنني شخصيا أعتبر الكفر حقا من حقوق الإنسان حتى من زاوية النص الديني "لا إكراه في الدين" و"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، أود التأكيد أن التكفير هو علامة من علامات الغلو والتطرّف في الدين، وأنه آفة خطيرة مست الفكر الإسلامي منذ البدايات الأولى، لكنْ لا أحد في تاريخ الإسلام الطويل سمح بإصدار قانون يجرّم التكفير، بل كل ما في الأمر هو أن العلماء كانوا يحذرون من التكفير، كما كانوا يفضلون أن يتحركوا وسط الناس بهذا الشعار "دعاة لا قضاة". نعم، هناك مشكلة تشعر بها بعض النخب التي ترى أنها مستهدَفة بفعل التكفير، كما أن هناك مشكلة مقابلة تشعر بها نخب أخرى ترى أن المغرب مستهدف في ثوابته الدينية، لكن المدخل لمعالجة هذه المشاكل يكمن في التقيد بالدستور أولا، وثانيا في تفعيل دور المجلس العلمي الأعلى ليضطلع بمهامه في مواجهة التطرّف والغلو والتكفير والدفاع عما يجمع الأمة لا عما يفرّقها. *افتتاحية عدد الثلاثاء 4 فبراير 2014 من صحيفة الناس