تاريخ مليء بالهزائم والإخفاقات؟ هذا الشعب العربي المنكود، عبر جغرافياته المتناثرة وتاريخه الشاسع، لا يزال يسكن جحور الخوف، ويتأبط مسالك الزمان، مندسا بين الماضي والنسيان، لا يرى دون نظارات الإخفاق، متعففا من أن يبرأ من عقدة السلف وأرق العماء؟. في ساعة النزال، يتلمظ منساقا إلى أهواء القلب. وعند التقاء الجموع يختفي منسابا إلى الصمت، كأنه يبحث عن شيء لا مدرك، بنفس المعنى، الذي تؤوله مناقب "مقاتلي الطبقات النبيلة مثل الساموراي والفرسان"، يتشحون سرابيل الحرب ويتمنطقون بمثاقيل الكلام، لكنهم لا يفعلون شيئا، سوى الصراخ والعويل؟. في كل الحروب الحديثة التي خاضها العرب، لا يكاد يذكر نصر جماعي توحدت فيه القيمة الحقيقية للانتصار. ولم يثبت قط، أن تسامت النظرة العربية في أسلوب المواجهة، وطريقة الاختيار، وتحقيق القوة المظفرة، التي لا غبار عليها. بل إن المصل الذي تسيل منه دماء البطولات، تحرفت فيها الخواتم إلى إخفاقات أليمة ونذوب لا تبرى. ولنكبة 67 عبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد؟. حتى في أقرب الحصون المحصنة، والسدائد التي عصفت بتيجان الاستعمار والحماية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وإلى ستينياته، ظل العقل السياسي العربي، رغم كماشات السيوف المسلطة على الرقاب، ووهن الهمم والقرارات، يشكك في الذات ويقسم وحدة المصير، فصدق فيه حديث "أمة القصعة" و"الزبد الجفاء". وتفرقت بذلك الحشود والأقطار، واشتدت الأطماع بين الإخوة، فران إلى خوارها التقطيع والحدود المصطنعة، وانجلاء العداوات والخصومات وكثرة الشنآن والأحقاد . ويعيد الدهر نفس مشاهد الانحطاط العربي وتخاذله وزيف ادعاءاته، في كل عصفة فلسطينية منتفضة. ليس بعد اتفاقيات الذل والهوان، التي جمعته بالصهاينة، على طول الخطوط الزمنية، التي شكمت أقفالها مصر الكنانة، عبورا إلى الأردن، ثم الخليج العربي والمغرب والسودان .. وهلم جرا. ومنذ وقيعة اتفاقية أوسلو، وإلى حدود إسدال ستار طوفان الأقصى، تكشف للعالم كيف يتنصل الحاكم العربي من قلادة هويته وتاريخه وثقافته. وكيف يلهي نفسه بمشاغل التفرقة وغوائل التقسيم وتعميق الخلافات والتباساتها. وإلى أي حد يشيح بظهره، كأنه ( يعطى الظهور على الأعادي)، ويتخلف حتى عن أداء واجب الإنسانية أو أقل من ذلك. إن إحدى أهم تمظهرات هذا الانحطاط الداعر والتقهقر السافر، ليس فقط الإذعان إلى الصمت والتآمر إزاء الأوضاع وانسداد الآفاق، وتحولات العلاقات وتوازنات القوة، بل يتعدى ذلك، إلى تشرذم الجسد العربي وتفككه على جميع المستويات وقتامة مصيره. ويبدو أنه بالإضافة إلى كل ما ذكر، يبقى استحضار ما أسماه فوكو باستئصال "البعد الأخلاقيّ في القيم المشتركة "، والذي انتهى بالتدريج، إلى تمكن "النّزوة الحاكمة على تصرّف الفرد المستبد". (يبقى) هو المنطق الصادم الذي يكرس واقع انسحاق صورة القرار العربي في الوعي العام. على أن العديد من المفكرين العرب المعاصرين، ومنهم محمد عابد الجابري، الذي قدم نظرية شافية لهذا الوباء العربي المأزوم، عبر "نقد أصنام التخلف والغلو والدوغمائية"، موجها سؤاله المركزي الذي أصبح مثالا صيروريا متقدا: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا..؟، مؤسسا فرضياته من توالي الهزائم وتضعضع الفكر الأخلاقي والحضاري للأمة، وتكدر العقلانية وانشغالها بالسفاسف والقشور، عوض التحلل من معاصف الماضي والارتهان على ضرورات الاستقبال العصري والحداثي. فمن يستعيد ترميم هذه الخلفية الكارثية الكابوسية، في أسباب تخلفنا وانحرافنا؟ وهل تبقى آثارها الاستعمارية كابحة لكل خطواتنا وأفكارنا، لأنه بكل بساطة، سنبقى في عزلتنا الجبرية، "نتبنى إحدى الطريقتين لملء هذا الفراغ الكوني الذي ينتابنا، إما أن ننظر إلى الأرض أو أن نرفع بصرنا إلى السماء ..".