لا يمكن فهم خطاب الذكرى 48 للمسيرة الخضراء إلا من خلال استحضار منظومة الفكر الاستراتيجي للملك محمد السادس. هذا الفكر الذي تحوّل إلى تخطيط وتدبير للقضيّة الوطنيّة في بيئتها الخارجية القريبة إفريقيا وأطلسيا، وفي بيئتها الخارجية البعيدة أوروبيا وعربيا، بل حتى في القارة الأمريكية أيضا. فالخطاب الملكي لا يأبه بالشرح ولا بالتعليق ولا الالتفات للأحداث الصغيرة المعاكسة والمضلِّلة والمخرِّبة، وإنما يعمل على إنشاء استراتيجيات عليا وكبرى متّسعة المجال فسيحة الفضاء وبعيدة المدى المكاني والزماني، ومتعددة الأركان والمقوّمات والفاعلين والمستفيدين برؤية متنوعة الأبعاد فكرا وتخطيطا وتنفيذا. وهذه الأبعاد الثلاثة هي التي حكمت بناء وصياغة الخطاب الملكي، ونقف عندها في ما يأتي: التفكير الاستراتيجي: ويمثّل العقيدة والقيمة الاستراتيجية لتحقيق هدف استكمال التحرير وتثبيت مكتسب المسيرة الخضراء، والتي تعبر عن إرادة صياغة مشروع استراتيجي وقوي ومقنع للدفاع عن القضية الوطنية. ذلك، أن الخطاب بدأ بالإشارة إلى أن المسيرة الخضراء مكّنت من استكمال الوحدة الترابية للبلاد. بحيث، بنى الخطاب فلسفته الفكرية على حتمية الوفاء لقيم قَسَم المسيرة الخضراء قصد مواصلة مسيرات التنمية والتحديث والبناء وحُسن استثمار المؤهلات التي تزخر بها بلادنا عامة والصحراء المغربية خاصة. إذ، يصرّح الملك أن المغرب كبلد مستقرٍّ وذي مصداقية، يعرف جيّدا الرهانات والتحديات التي تواجه الدول الإفريقية عموما والأطلسية على وجه الخصوص [...] ومن هذا المنطلق، يعمل على إيجاد إجابات عملية ناجعة لها في إطار التعاون الدولي. التخطيط الاستراتيجي: ويقوم على تثمين الصحراء بحرا ونحو الأطلسي حيث الحرص على تأهيل المجال الساحلي وطنيا، وهيكلة الفضاء الجيو-سياسي على المستوى الإفريقي قصد تحويل الواجهة الأطلسية إلى فضاء للتواصل الإنساني والتكامل الاقتصادي والإشعاع القاري والدولي. وهي إرادة بناء وتوحيد تقابل عقيدة الحرب والتخريب الجزائرية. الأداء الاستراتيجي: ويعمل على تقديم البرامج والمشاريع واقتراح أدوات العمل في إطار توظيف الموارد والقوّة والإشراك والتواصل. حيث يعبّر الخطاب عن إرادة استكمال المشاريع الكبرى المؤهلة للأقاليم الجنوبية، والتي ناهزت حوالي مائة مليار درهم لتوفير مكونات الساحل الأطلسي وتوفير وسائل النقل ومحطات اللوجيستيك وتكوين أسطول بحري تجاري وطني قوي وتنافسي. وهكذا، تأكّد أن التفكير الاستراتيجي للملك محمد السادس، ومن خلال إدارة ملف الصحراء، ينمّ عن معرفة جيّدة وناجحة بكيفية حسم هذا الملف وإنهاء النزاع لصالح المملكة المغربية الشريفة. ذلك، أن رؤية الملك قدّمت، من خلال الخطاب، تحليلا جديدا متقدما ومغريا لبيئة الصحراء، يقوم على استشراف معياري منهجي بعيد المدى الزماني، من خلال التنبؤ بالصورة المستقبلية للصحراء عبر الكشف عن البدائل الواقعية وتحيين العلاقات الإفريقية-الأطلسية، والإفريقية-العربية، وبلورة التفاعلات القارية والدولية الإفريقية والعربية الأوروبية، والغربية عامة حتى القارة الأمريكية، مع رصد التوقّعات الإيجابية المفيدة لصالح الجميع. ولم يفت الخطاب الملكي إبراز عناصر القوة المتاحة في الصحراء، وفي الواجهة البحرية الأطلسية الواعدة والتذكير بمقومات القوّة القيمية الكامنة والمميّزة للمغرب، والمتمثلة في الانفتاح والتضامن والتواصل والمصداقية. إن التفكير الاستراتيجي، في الخطاب الملكي، اختار ترسيخ جغرافية الصحراء بحرا نحو البعد الأطلسي بكل مكوّناته. وقد تأكد أن ذهنية الملك تشتغل على حُسن التوظيف الجيو-سياسي للصحراء من خلال تفاعل المصالح بغاية ربح رهان مبادلة التهديدات والتحديات بالفرص؛ حيث أصبحت الأولوية، في هذه المرحلة، للاقتصاد وتبادل المصالح والمنافع والاعتماد على التبادل الإيجابي والمنتج للخيرات، والمحصّن للمصالح، والمؤمّن لمغربية الصحراء. ولعل التخطيط الاستراتيجي الذي يعدّ وليد التفكير الاستراتيجي على مستوى التدبير، اختار حُسن إدارة المتغيّرات الاقتصادية من خلال تجسيدها في برامج ومشاريع وتصميم واقعي لها، لتثمين موارد الصحراء، وخاصة على الواجهة البحرية الأطلسية، لتحقيق الهدف الأسمى، والذي يتمثّل في حُسن ختم وحُسن حسم مغربية الصحراء على قاعدة ومحدّد الحكم الذاتي. ولتحقيق ذلك، عمل الأداء الاستراتيجي على بسط وتوضيح كيفية تنفيذ المخطط من خلال اقتراح أدوات عمل مؤسساتية للدول الأطلسية، حيث يقول الملك: "لذا، نقترح إطلاق مبادة إحداث إطار مؤسسي، يجمع بين الدول الإفريقية الأطلسية الثلاث والعشرين، بغية توطيد الأمن والاستقرار والازدهار المشترك". وهي مبادرة فيها من المعنى الشيء الكثير للجارة الجزائر من خلال الرؤية والسيادة المغربية. وقد تجسّدت نسقيّة الأبعاد الاستراتيجيّة الثلاثة، المتمثلة في التفكير والتخطيط والأداء والقدرة الملكية في إدارة المصالح لمواجهة التحديات في البيئة الاستراتيجية للصحراء عبر توسيع دائرة العمق الاستراتيجي للمصالح بالصحراء لعدة دول وقارات وواجهات بحرية. وقد ظهر هذا في تغيُّر وتطوُّر وترقية الأولويات المغربية التي يمكن أن نمثّل لنمط وسلّم تحوُّلها في المراحل الآتية: المرحلة الأولى: استندت إلى قيمة استكمال التحرير السلمي للأراضي المغربية واسترجاع الصحراء وعدم التفريط في ذرة تراب مغربية على يد المرحوم الحسن الثاني وملحمة المسيرة الخضراء؛ المرحلة الثانية: اعتمدت على قيمة السلام والمشروعية الدولية بالتوجه نحو الأممالمتحدة بعد محكمة لاهاي في زمن هيمنة إيديولوجيا الحرب الباردة والانقسام الدولي والاصطفافات المؤدلجة والمغرضة مع الحرص على الدفاع القوي على مكتسبات المسيرة الخضراء؛ المرحلة الثالثة: عملت على تحقيق الأمن الذي تُرجم بوقف إطلاق النار في الصحراء سنة 1991 لتأمين الوجود المغربي بالصحراء وتمكين البقاء ولربح الوقت للعمل؛ المرحلة الرابعة: قامت على انغماس وانهماك المغرب في تنمية الصحراء رغم تحمّل كلفة باهظة لتغيير وجه الصحراء والاستثمار فيها للمستقبل. وقد أكد الخطاب الملكي بأن تحديات الساحل لن يتم حلّها بالأبعاد الأمنية والعسكرية فقط، بل باعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة، في تعبير عن وعي استباقي ناضج وسلمي ومنتج؛ المرحلة الخامسة: اعتمدت على التوجه نحو إفريقيا والعودة للبيت الإفريقي من خلال شراكات اقتصادية أثمرت، بمعيّة مرونة وقيم المراحل السابقة، انتصارات سياسية ودبلوماسية كبيرة لانتزاع مكانة كانت ضرورية ولا بد منها قبل الإفصاح عن المشروع الاستراتيجي الكبير للدفاع عن الصحراء وتأمين مغربيتها. وهي الشراكات التي أثمرت فتح ثلاثين قنصلية بالصحراء واعتراف أكثر من مائة دولة بأهمية وبجدوى وبواقعية مقترح الحكم الذاتي المغربي، وعلى رأسها عدة دول كبيرة، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية وألمانيا وإسبانيا، وزحزحت الموقف الروسي المتصلب وأنعشت الموقف الصيني البارد للخروج من الحياد السلبي نحو دعم الحل السياسي الواقعي المغربي لحساب المصالح المغربية. وفي هذا الصدد، يقول الخطاب بأن التعبئة الدبلوماسية مكّنت من تقوية موقف المغرب وتزايد الدعم الدولي للوحدة الترابية والتصدي لمناورات الخصوم؛ المرحلة السادسة: هي التي تقوم، اليوم، من خلال خطاب الذكرى 48 للمسيرة الخضراء، على توسيع دائرة مصالح دول الساحل الإفريقي الأطلسية والدول العربية والأوروبية الأطلسية والدول الغربية في إطار خطة تجميعية اندماجية دفاعية قوية توحيدية للمصالح من أجل اكتساب الهبة من مدخل الاقتصاد لتأكيد المصداقية وتثبيت المكانة في التفاعلات الدولية المستجدة. يقول الملك: "كما ساهمت قيم التضامن والتعاون والانفتاح التي تميّز المغرب في تعزيز دوره كفاعل رئيسي وشريك اقتصادي سياسي موثوق وذي مصداقية على المستوى الإقليمي والدولي، وخاصة مع الدول العربية والإفريقية الشقيقة". ولعل الخطاب الملكي أكد أن الخطة الدفاعية الموسَّعة الجديدة تقوم على إرادة تطوير الأهداف مع الشركاء لتحقيق إنجازات كبرى مشهودة، وفتح أعين المنتظم الدولي والفاعلين الاقتصاديين على جاذبية الصحراء وأهميتها المستقبلية ومواردها ومؤهلاتها المتنوعة ومجالاتها الخصبة وواجهاتها الغرية. ذلك، أن الخطاب، بما قدّمه من مقوّمات عن الصحراء، قد قدّم قوة إقناعية واقعية من خلال الواجهة الأطلسية التي هي بوابة المغرب نحو إفريقيا ونافذته نحو الفضاء الأمريكي. يقول الخطاب الملكي: "ولمواكبة التقدم الاقتصادي والتوسع الحضري الذي تعرفه الصحراء المغربية، ينبغي مواصلة العمل على إقامة اقتصاد بحري يساهم في تنمية المنطقة، يكون في خدمة ساكنتها [...] اقتصاد قوامه تطوير التنقيب عن الموارد الطبيعية في عرض البحر ومواصلة الاستثمار في مجالات الصيد البحري وتحلية مياه البحر لتشجيع الأنشطة الفلاحية والنهوض بالاقتصاد الأزرق ودعم الطاقات المتجددة [...] واعتماد استراتيجية خاصة بالسياحة الأطلسية، تقوم على استثمار المؤهلات الكثيرة للمنطقة قصد تحويلها إلى وجهة حقيقية للسياحة الشاطئية والصحراوية". وبهذا، يكون خطاب الذكرى 48 للمسيرة الخضراء قد قدَّم رؤية-خطَّة بديلة دامجة للدول الأطلسية الثلاث والعشرين، وعلى رأسها دول الساحل، لتوطيد الأمن والاستقرار وتحقيق الازدهار المشترك. وهو اقتراح بديل مفتوح ومنفتح للاشتراك الإفريقي والإدماج الأطلسي، يتضمن رسالة قوية للعالم بالانفتاح المغربي على كل الهواجس والمصالح. وهي رؤية حاملة لمشروع مغربي قوي وكبير وصلب للدفاع عن مغربية الصحراء وتسريع وتيرة حسمها لصالح المغرب. والمؤكد أنّ عقيدة الجزائر المخرِّبة والمشتِّتة ستسبح ضد التيار ولن تلتقط الرسالة، فتضيّع الفرصة ثم ستجد نفسها خارج إطار الدوّل الأطلسية لتزداد عزلة في سيرورة ابتعاد الدوّل الإفريقية عنها وعن حماقاتها.