لم تكن يوما القضية الفلسطينية لدى المغاربة قضية سياسية أو نخبوية؛ بل كانت قيمة إنسانية آمنّا بها منذ الصبا وتشبثنا بها حتى صارت عقيدة وطنية، إذ سبق للملك محمد السادس أن أكد في خطاب له خلال افتتاح الدورة العشرين للجنة القدس التي يرأسها المغرب منذ تأسيسها عام 1975 أن "قضية القدس أمانة على عاتقنا جميعا، حيث جعلناها في نفس مكانة قضيتنا الوطنية الأولى، وأحد ثوابت سياستنا الخارجية". لذلك، فالشعب المغربي كان دائما مهيّأ لتلبية نداء الإنسانية كلّما انتُهكت حقوق الفلسطينيين وانطفأت عنهم أضواء الإعلام الغربي والمسيرة الشعبية الحاشدة التي نُظمت في مدينة الرباط يوم الأحد 15 أكتوبر الجاري خير شاهد على تضامن المغاربة المطلق مع الشعب الفلسطيني. ولعل القضية الفلسطينية، كما قضية وحدتنا الوطنية، تمثلان رسالة جوهرية للمجتمع الدولي ليفهم بأن الوحدة الوطنية هي أساس السلام، وأن حقوق الإنسان ليست قناعا فوق أجندات سياسية؛ فنحن، اليوم، نتساءل: بأي حق تُقمع المظاهرات المساندة للشعب الفلسطيني في المجتمعات الغربية، التي طالما تبجّحت بحرية التعبير وحرية المعتقد والفكر؟ هل "حقوق الإنسان" قيم يؤمن بها الغرب حقّا أم هي جرعة حُقنت في الجسد الغربي لتحسين نسله بعد الحرب العالمية الثانية؟ والواقع هو أن الغرب يتخذ من "حقوق الإنسان" ما يهمّه من مصالح وأهداف، كطمس الهوية العربية وبناء نظام دولي فوق أنقاض الخراب العربي. لكن، وإن اجتمعت القوى الدولية كلّها من أجل تضليل الرأي العام بشأن الضحايا الفلسطينيين، فلا يمكنهم دحض الوعي الشعبي الجماعي المؤمن بعدالة القضية، الرافض للإقصاء الذي يشكّل خطرا كبيرا على السلم والأمن الدوليين؛ لأن الشعوب لن ترضى أن تُحتكر أصواتها لصالح فئة قليلة من الضحايا المدنيين في إسرائيل مقابل إخفاء كمّ هائل من جثث الفلسطينيين. من العبث أن تُساق أرواح الضحايا الأبرياء كذخيرة للحرب وأن نتجاهل العامل الإنساني في هذا النزاع، خاصة في ظل خطاب الوعيد الذي يتبناه الجانب الأمريكي والإسرائيلي، الذي لن يزيد الوضع إلاّ انتكاسة، بالإضافة إلى التدخّل الإيراني الذي ينخر منطقة الشرق الأوسط ويتغذى على بؤر النزاعات كحال غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن، دون أن ننسى محاولات إيران لاختراق شمال إفريقيا من أجل تنفيذ مشروع التمدّد الشيعي وتفرقة الأمة الإسلامية وضرب مذهبها السنّي القائم على الوسطية والاعتدال؛ ممّا سيؤدّي إلى نشوب حروب أهلية تضعف الدول العربية... وهو الأمر الذي حرص المغرب على متابعته بدقّة، وبناء عليه قُطعت العلاقات بين المغرب وإيران بعدما رصد الأمن المغربي من خلال أدلّة وثائقية دعم إيران لشرذمة "البوليساريو" بالأسلحة والتدريبات العسكرية. للتذكير، يرجع التوتر بين المغرب وإيران إلى عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان أوّل من تصدّى للتطرف الفكري لآية الله الخميني، قائد الثورة الإيرانية، وكشف خطة التوغل الشيعي داخل المجتمعات العربية تحت غطاء سياسي. ففي سنة 1980، أمر الملك الراحل الحسن الثاني، بصفته أمير المؤمنين، رابطة علماء المغرب بإصدار فتوى في حق الخميني، إذ تم تكفيره ودعوته إلى التوبة بعدما خرج بتصريح أثار استياء العالم الإسلامي بقوله: "إن الأنبياء جميعا جاؤوا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم؛ لكنهم لم ينجحوا.. وحتى النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة، لم ينجح في ذلك.. وإن الشخص الذي سينجح في ذلك ويرسي قواعد العدالة في جميع أنحاء العالم ويقوِّم الانحرافات هو الإمام المهدي المنتظر". وفسّرت رابطة علماء المغرب بأن الخميني يعتبر المهدي المنتظر شريكا للخالق عز وجل في الربوبية والتكوين. تلك حقيقة الفكر السياسي الإيراني الذي ما زال راسخا إلى يومنا هذا، وتلك هي المرجعية العقائدية لقادة إيران. لذلك، نقول إن الدعم الإيراني لفلسطين هو دعم مشبوه، وأن إيران لا تعنيها القضية الفلسطينية في شيء بقدر ما يعنيها كسب بؤر هشة بسبب النزاعات من أجل نشر فكرها المتطرّف. في خضم هذه المأساة الإنسانية، اعتاد المغاربة إذا أصابهم ضرر أن يقولوا "الله يحد الباس"، ومن أجل أن نضع حدّا للبأس الذي يعصف بالشعب الفلسطيني لا بدّ من تهدئة الوضع من كلا الطرفين والعودة إلى طاولة المفاوضات من أجل الوصول إلى حلول واقعية وعقلانية. كما يجب على الدول العربية التي استأنفت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل أن تتدخّل عاجلا من أجل توفير المساعدات للشعب الفلسطيني؛ باعتبار أن تلك الدول، بما فيها المغرب، قادرة على فرض تأثيرها على الحكومة الإسرائيلية من خلال الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهو ما أكده السيد ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، خلال الاجتماع الطارئ للجامعة العربية. كما يجب التذكير أن الأعراف الدبلوماسية تفرض على الدولة المفاوِضة أن تحظى بقبول من طرفي النزاع، كما هو الشأن بالنسبة لمصر التي سجّلت نجاحا ملموسا خلال تجربتها التاريخية في المسار التفاوضي بين إسرائيل وفلسطين، ولم تكن لتحقق هذا النجاح لولا تطبيع علاقاتها مع إسرائيل وحرصها على أن تخدم مصالح الفلسطينيين من خلال ذلك التطبيع الذي يوفّر لها وسائل التواصل الدبلوماسي مع كلا الطرفين والتدخل من أجل وقف العدوان على قطاع غزة. إن الحوار هو فرصة لوقف حرب دامية قد تندلع في المنطقة بأكملها، أمّا خذلان القضية الفلسطينية فهو تكبيل يديْ حنظلة إلى الأبد وجعله يُنسى كأنه لم يكن.