كلام فُضْلَةٌ ونَشاز، كلام بائتٌ.. في الحضيض لا يرقى إلى مستوى الحدث الفجائعي، والتعبئة الشعبية العظيمة بخصوص زلزال الحوز الذي أتى على البشر والحجر والشجر في غفلة ولحظة لم تدم غير ثوانٍ. بيان "البيجيدي" هو بيان أعشى ومُلْتاث، يجتر في ثناياه ولغته بؤسا دَعَويا باليا، ويلوك -واعيا أو غير واعٍ- خطابا رجعيا ماضويا يذكر بالقرون الخوالي، والعقود الذواهب، أيام كانت كل مصيبة تصيب البلاد هنا أو هناك، كالزلازل والأوبئة من طاعون وكوليرا، وحمى صفراء، ومجاعة كاسحة، وغاشية الجراد، وانقطاع الغيث، تجد من يرد أسبابها ودواعيها إلى العقاب الإلهي، والانتقام الرباني، وإنزال الخراب بالإنسان لقاءَ ما قدمت يداه، وما دار بخلده، ومر بباله، ونفسه الأمارة بالسوء، ليتعظ الإنسان. لقد كان لمثل ذاك الكلام والتفسير الغيبي -فترتئذ وتاريخئذ- ما يبرره. وما كان يبرره هو سيطرة الفقهاء والأمية الظالمة، والشعوذة، وانتشار الفكر القيامي باقتراب "الساعة"، وضمور العلم والاجتهاد، وغياب الطب العصري، والاتصال والتواصل، واستخدام التكنولوجيا وغيرها، ما جعل الفكر الغيبي يطغى، ويردد، من دون كلل ولا ملل، لازمة العقاب والحساب، ودنو الساعة والعذاب بحسبان ما يرتكبه ويقترفه عباد الله العصاة، وما يأتونه من هرطقة وبغي وغلو وفساد، ونسيان لذكر الله، وتعطيل الصلوات والزكوات والصدقات، والأذكار حتى ولو كان الذين ضربهم زلزال أو حل بهم وباء مثلما وقع لنا، بشرٌ مساكين لا حول لهم محتاجون وفقراء، ومخلوقات تعبد الله ليل نهار، وتسبح بحمده صباحَ مساءَ. فبأي ذنب يقتلون ويعاقبون؟ أبصمتهم أم بإيمانهم الفطري، وثقتهم العمياء في الغيب، واعتقادهم الراسخ الذي لا يتزعزع في الملائكة والرسل، وأولي الأمر منهم حتى ولو كان في مرتبة مقدم أو شيخ الدوار والمدشر، فكيف بقائد أو باشا أو دركي؟ بأي ذنب تصب الحجارة وتتهاوى السقوف على رؤوس الأطفال والنساء والرجال وهم نيام أو أيقاظ يتحادثون ويتفكهون ويروون في ما بينهم ما يسلي ويضحك، وينسيهم معاناتهم؛ أو وهم قائمون يصلون ويسبحون ويحلمون بالتسوق والتبضع غدا -حفاةً أو على كل ضامر- ولو في بغداد؟ هل يكون الله سبحانه وتعالى ظالما يظلم ويتشفى في عباده كلما عَنَّ له ذلك وهو ينظر إليهم من عَلٍ، فيأمر ملائكته أو جنه بردم الدور والمساكن على الناس وهم رقودٌ، والحيوانات وهي ساهمة تجتر ما تجتر، لأن قضاءه شاء أن يتواقت مع اهتزاز الأرض التي تحركت صفائحها بأمر رباني لا سبيل إلى رده ودفعه واتقائه؟ كلا، ثم كلا. فالله رحيم بعباده، رؤوف بهم، سميع مجيبٌ. وقد جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم عن نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا). كما أكدت ذلك عشرات الأحاديث النبوية المروية التي تنحو المنحى نفسه، وتنزع إلى التذكير والاعتبار برحمة الله وعذابه، وأن رحمته سبقت عذابه. ما جريرة إخواننا وأخواتنا الذين حط طائر الموت على رؤوسهم مساء جمعة سوداء في جنح الليل، وعقارب الساعة تزحف نحو المنتصف إيذانا بيوم جديد؟ ما جنايتهم وذنبهم وهم الذين كانوا يعانون العَوَزَ والحاجةَ والإملاقَ والهشاشة والإقصاء، على مستوى العيش الكريم، وعلى مستوى غياب التجهيزات الأولية الضرورية، والبنيات التحتية من طرق معبدة، ومساكن كريمة، وكهرباء مضيئة، وماء شروب، ومدارس، ومشافٍ، وصيدليات...؟ هل يستحقون -يا أستاذ بنكيران: أيها الفقيه في جبة السياسي، والسياسي في جبة الفقيه- ذلك العقاب، وكارثة الزلزلة التي طوتهم طيَّ كتاب؟ أم أن ناموس الطبيعة، وأنظمة الأنساق المخفية، والمعادلات الفيزيائية، تتكلم وتَنْعَلِنُ حين يحين وقتها، ولا يد للقدرة الإلهية فيها، لا لأن الأمور تخفى عليه سبحانه، بل لأن الأمور مقدرة ومدبرة ومتصرفة وَفْقَ نواميس وقوانين، وأشراط ميتافيزيقية من زمان، منذ أن تشكلت الحياة والأحياء، ونشأت المقتضيات والقدرات الربانية التي بقوتها يقع ما يقع؟ ووفْقَ نصائحكم "الحامضة" المتخلفة التي تحاول أن تخفيَ تهافتا، وزلزلة نفسية، وارتجاجا دماغيا، ورغبةً في الظهور بعد البيات ليس إلاَّ: أيكون الحق جلَّ وعلا، غائبا عما يجري في بلاد الشام، وفي كثير من بلاد المعمور؟ ووفق منطقكم، ومسايرة لروح "بيانكم" الميتة، أسألكم: لماذا لم يسلط الله زلزالا أو يخسف الأرض بإسرائيل كما خسفها بالأمم الضالة الظالمة قبلها، وهي التي سرقت أرضا ليست لها، واقتلعت شعبا يعاني الأمَرَّيْنِ: الاحتلال والاستيطان من جهة، والتجاهل والإعراض من إخوانه العرب من جهة أخرى؟ ولِمَ تَرِدُ الأخبار حاملةً أنباء عشرات بل مئات الأطفال والطفلات الذين يقتلون بدم بارد، ويجوعون ويمرضون بالمخيمات، أو يموتون غرقا في الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي، من دون أن تمتد إليهم يد رحيمة، يد علوية لتنقذهم وتوفر لهم العيش الكريم، والعش الدافئ، والغد المأمول؟ أم أن الأمر قدرٌ، وشيءٌ مسطور في كتاب الغيب لا تعيه البيجيدي، ولا أنا، ولا غيرنا؟ وإذن، كفى كذبا وبهتانا، وإطلاقا للدعاوى الرثة، وتحذيرا مما لا يدَ للإنسان فيه؛ أم أن الله يريد أن يبتليَ عباده المؤمنين، ويتركَ "الكافرين" سادرين في غيهم إلى يوم الحاقّةِ والنشور؟ اتقوا الله في أنفسكم، وعودوا إلى صوابكم وصلواتكم، وسائلوا أنفسكم، وأنِّبوها، وأشبعوها تقريعا لأنكم مارستم الحكم والتسيير والتدبير مدة عقد كامل، ولم تنتبهوا لحال إقليمالحوز، وحال سكانه أطفالا ونساء ورجالا وشيوخا وعجزة. أين كنتم إذنْ، وكيف لم تنتبهوا وتستمعوا إلى شقاء وأنين الحوز؟ أم كنتم تكتفون وزراءَ وبرلمانيين، ورؤساء جماعات ترابية بالبسملة الدائمة، والحوقلة المستمرة، والإضحاك السّمْج، ودَسِّ آيِ الذكر الحكيم في خطبكم وكلامكم، ومواقفكم، لينخدع بها المؤمنون "المنومون"، فتظهرون لهم "ملائكة"، أو "أنصاف ملائكة"، وأولياء صالحين، مع أنكم تهافتتم على الذهب والفضة، ومتاع الحياة، متاع الغرور؟؟. أَلاَ بئس ما تفترون، وما تدبجون من بيانات تثير الشفقة، ولا تثير العقل والوجدان. ارحموا الدين ولا تزجوا به في غياهب الافتراء، وفي ما يفيدكم، ويخدم أجنداتكم. فبيانكم الذي أطلعتموه يوم السبت 23 شتنبر 2023، يُسَفِّهُ الفعل السياسي، والقرار الحكيم، والتعبئة الشعبية غير المسبوقة، وينشر البلبلة في العقول، والخرافة في واقع مغربي متكافل متضامن يتحرك قُدُما إلى الأمام، لاَعِنا من يلعن الشعب، ويشكك في قائده، وفي قواه وعظمته وشموخه. تعالوا نَخْضَعْ سويّا لقوانين التاريخ لا لقوانين الدين والغيب، فقوانين الدين ثابتة أَدْخَلُ ما تكون في باب المسلمات والتوجيهات والتمضيات، بينما تستند قوانين التاريخ إلى الحتميات والتطورات، ومنطق القطائع الإبستمولوجية، ونضوج الفتوحات العلمية، والاجتراحات المعرفية الموقوتة والمتغيرة، وسيادة الإنسان أولا وأخيرا. وما أظنكم تُمارون في هذا الكلام، لأنكم تَعرفونه تمام المعرفة، ولكنكم تُمْعِنونَ في حجبه ومواراته، تمعنون في لُعْبة الغماية، وبلاغة التورية، ومناورة التقية. إشارة: وقد جاء في بيان "البيجيدي"، ما يلي: (.... يجب أن نراجع أنفسنا، ونرجع إلى الله، ونتبين هل الذي وقع قد يكون بسبب ذنوبنا ومعاصينا ومخالفاتنا ليس فقط بمعناها الفردي، ولكن بمعناها العام والسياسي، لأن السؤال المطروح ليس فقط عن المخالفات الفردية، وإنما عن الذنوب والمعاصي والمخالفات بالمعنى السياسي، وتلك الموجودة في الحياة السياسية عامة والانتخابات، والمسؤوليات، والتدبير العمومي وغيرها).