أولا: الميلاد والنشأة ولد المرحوم عبد المجيد غميجة بمدينة مكناس بتاريخ 18 نونبر 1956 في أحد الأحياء الشعبية في المدينة القديمة؛ وسط عبق المآثر والمعالم التاريخية من والديه المرحومين أحمد غميجة وفاطمة البلغيثي. كان عبد المجيد وحيد أبويه. كان أبوه معروفا في الحي بالكرم والجود؛ فكان يرعي الأطفال الفقراء؛ وخاصة منهم طلبة الكتاتيب القرآنية؛ فيحتضنهم ويؤويهم عند الضرورة في بيته. وقد ورث الابن عن والده هذه الصفة في الرعاية والاهتمام بذوي الحاجات؛ فكان يقدم المعونة قدر المستطاع؛ في صمت وخفاء. – نشأ عبد المجيد كآلاف الأطفال المغاربة في ذلك الوقت. دخل الكتاب القرآني؛ فحفظ القرآن الكريم. ثم التحق بمدرسة الشريف الإدريسي الابتدائية بمكناس حيث حصل على الشهادة الابتدائية سنة 1969؛ وبعدها دخل المعهد الإسلامي للتعليم الأصيل بنفس المدينة لمتابعة التكوين في مرحلتي الإعدادي والثانوي حيث حصل سنة 1976على شهادة البكالوريا الأدبية؛ شعبة التعليم الأصيل. – لا نعرف ماذا كانت آمال وتطلعات الفتى عبد المجيد بخصوص نواياه حول نوع الدراسة الجامعية التي يريدها. لكن ما نعرفه؛ أن قدميه ساقتاه إلى كلية الحقوق بفاس؛ وفيها حصل سنة 1979على شهادة الإجازة في الحقوق؛ فرع القانون الخاص. – شعر الشاب عبد المجيد وهو في الجامعة؛ بضعفه في اللغات الأجنبية؛ وأهمية تحسين مستواه فيها؛ فعمل على تدارك ذلك. فكان أن حصل من المركز الثقافي الفرنسي على شهادة التمكن اللغوي في الفرنسية المسماة "Delf"؛ ومن المركز الأمريكي للغات على شهادة "طوفل Tofl" في اللغة الانجليزية. وخلال عمله بطنجة؛ بدأ يتعلم الإسبانية وكان متقدما في ذلك؛ لكنه لم يتمكن من متابعة التكوين فيها. ثانيا: الخصال والشمائل في شخصية عبد المجيد غميجة – بتاريخ 18 يناير 2019 نظمت وزارة العدل حفلا تأبينيا للراحل بعد مرور الأربعين على وفاته؛ وذلك بالمدرج الكبير بالمعهد العالي للقضاء؛ وهو المدرج الذي سمي باسمه يومها؛ وتمت إزاحة الستار عن اللوحة الحاملة لاسمه من طرف الوزير والشخصيات الحاضرة. كان يوما تاريخيا بكل ما في الكلمة من معنى. كان المكان يفوح بعبق الذكري والاعتراف بالجميل؛ وكانت الروح الطاهرة لعبد المجيد ترفرف في أرجاء المدرج. كان الحاضرون من كل الطوائف المهنية ذات الصلة بالعدالة؛ ومن كل الاتجاهات الحقوقية والفكرية والدينية. – حضر المجلس الأعلى للسلطة القضائية في شخص الرئيس المنتدب؛ الرئيس الأول لمحكمة النقض؛ ورئيس النيابة العامة الوكيل العام لديها وباقي الأعضاء. – وحضر رئيس المحكمة الدستورية والأمين العام بها وأعضاؤها؛ ووالي بنك المغرب؛ ووسيط المملكة؛ والمندوب السامي لحقوق الإنسان؛ ومدير مدرسة الحديث الحسنية بالرباط. – وحضر وزير العدل والوزراء السابقون للعدل. – وحضر رؤساء الغرف والأقسام والمستشارون والمحامون العامون ومسؤولو كتابة الضبط وكتابة النيابة العامة؛ لدي محكمة النقض؛ وحضر الرؤساء الأولون لمحاكم الاستئناف المختلفة ورؤساء المحاكم والقضاة ورؤساء الهيئات المهنية المختلفة ذات الصلة؛ وحضر رئيس وأعضاء مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب وعديد من نقباء هيئات المحامين؛ والمحامون؛ والجامعيون وموظفو المعهد؛ وطلبة المعهد وغيرهم كثير. – كان يوما مشهودا؛ اختلطت فيه مشاعر الألم والحزن؛ بمشاعر التقدير والعرفان. – كانت كلمات الجميع مع اختلاف ألفاظها ومفرداتها؛ متفقة في مدلولاتها؛ متحدة في الإشادة بالرجل وخصاله الحميدة وأخلاقه العالية وشهامته وتواضعه وأفضاله المتعددة وضميره المهني ومناقبه التي لا تحصى. – وقد طبعت وزارة العدل كتيبا ضمنته ما جري في هذا الحفل التأبيني؛ والكلمات التي ألقيت بالمناسبة أقتطع منها ما يلي: – قال وزير العدل السيد أوجار: "تنقلتَ بين المناصب وتسنَّمتَ أعلى المراتب؛ فلم يزدك علوك إلا تواضعا، في انبساط نفس واعتدال مزاج؛ ونشاط دائب؛ وعطاء متواصل؛ وبذل سخي بالجهد والنفس... أنا واحد ممن يعتذر منك؛ لأننا لم نمنعك أن تهب حياتك كل حياتك لعملك على حساب راحتك وصحتك وأسرتك الكريمة؛ لأننا نسينا أن نذكرك أن لنفسك عليك حقا؛ ولبدنك عليك حقا؛ ولأهلك عليك حقا". – وقال السيد مصطفي فارس، رئيس محكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية: "فتقد اليوم القدوة والنموذج الذي جسدته بكل شموخ؛ نفتقد تلك الطاقة المبدعة التي تعمل بجد وتنتج في هدوء؛ نفتقد العالم الزاهد والفقيه العامل بهمة لا تعرف الشكوى أو الكلل... أنت عبقري المودة والتواضع؛ ومدرسة الأخلاق والوطنية. وسيرة ستبقى خالدة في درب العدالة الطويل والشاق؛ تستحق أن تروي وتكتب وتدرس". – وقال السيد محمد عبد النباوي؛ الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة: "كان الرجل واحدا لا يتغير؛ كتوم؛ صبور؛ امتلك مرونة دبلوماسية مذهلة، جعلته يجتاز أصعب "المواقف ويحظى باحترام كبير داخل الوسط المهني. هو رجل من العظماء في تاريخ القضاء... ها أنت ترحل عنا في صمت؛ كما عشت بيننا صامتا؛ وتغادرنا بهدوء؛ كما أقمت بيننا هامسا. العظماء من طينتك لا يموتون. لقد فقدنا شمعة مضيئة في طريقنا؛ انطفأت وأقلامنا لا نزال تهتدي بها لكتب سفر عظيم من حياة "قضاء المغرب؛ فكيف تستقيم الكتابة بدون نور شمعتك". وقال السيد محمد سعيد بناني؛ القاضي الشرفي والمدير العام السابق للمعهد العالي للقضاء: "لقد أسديت لنا العطاء بلا حدود؛ ونذرت نفسك للعمل مقرونا بالتفاني فيه؛ حتى وأنت مصاب بالمرض اللعين؛ مكثت متحملا الأعباء؛ مبتسما؛ متفائلا بشوشا؛ ناسيا أن لنفسك عليك حقا. لقد اعترف لك الجميع بما قدمته في الكثير من المواقف؛ إذ وضعت نفسك بكرم حاتمي؛ بإيثار الآخرين على الذات. لقد افتقدك المغرب؛ وأعي ما أقول؛ إذ جمعت خصائص العلم القانوني والقضائي والحقوقي بخصال المجد في عملك؛ منكرا لذاتك في سمو وجلال ووقار؛ فكريمة هي خصالك؛ وسامية هي شمائلك.. ستبقي سيرتك العطرة شاخصة سامقة في الأذهان؛ محبوبا حبا وميتا؛ نقدرك ونحترمك؛ ونعتز بمعشرك؛ ونفخر بك زملاء وأصدقاء". – بعد الكلام النثر جاء دور الشعر والقوافي. قصائد طوال صدحت بها حناجر بعض المحبين؛ نقتطع منها بعض الأبيات: يقول السيد شكري الأجرواي: عبد المجيد أخ لنا وصديقنا ذكراه خالدة مآلها للخلد شهد الجميع بما لكم من خصلة وعطاؤكم للعدل يشهد بالجد ويقول السيد محسن القوارطي: مجيد القضاء لك منا السلاما لا الشعر وفاك الحق ولا الكلاما رحل الحكيم في صمت الليل مضى وحيدا من كان فينا الإماما – ثم كانت اللحظة المؤثرة عندما تناولت الكلمة أرملته المحترمة؛ شاكرة في البداية جلالة الملك محمد السادس على الرعاية والمساندة المادية والمعنوية التي أحاط الأسرة بها. كان صوتها المتهدج وكلماتها الممزوجة بدموع الأسى والحزن؛ وهي تشكر كل المسؤولين في الوزارة وعلى رأسهم الوزير وبقية الحاضرين والمواسين والمتكلمين والمنظمين وجميع المحبين؛ يرخي على القاعة صمتا كصمت القبور؛ أضافت إليه جلالا وهيبة كلماتها وعواطفها الصادقة ومما قالته: "لقد كان رحمه الله الأب العطوف؛ ورب الأسرة المكافح؛ خلف الذرية الصالحة التي تدعو له. كان في حديثه يدفع بالتي هي أحسن؛ ويجادل بالحسنى؛ ويعامل بالرفق واللين. أحب عمله وجعل منه عبادة؛ وقدر الأمانة التي تحمل؛ حق قدرها؛ في نكران تام للذات. لقد كان الصديق الوفي؛ والمربي الطاهر النقي". – وقد طلب كاتب هذه السطور [عند كتابة هذا النص] من أبنائه كلمة في حق والدهم؛ فجاءت كالآتي: "كان والدنا عطوفا بنا؛ رحيما وحنونا؛ كريما يعطي بغير حساب. يعاتبنا برفق ولين؛ فلا نذكر أنه عاقبنا أو صرخ في أوجهننا عندما نرتكب مثل الجميع أخطاء تستوجب العقاب. كان فخورا بنا ونحن نكبر وننجح في دراستنا ثم في أعمالنا بعد ذلك. "تمنينا يا والدنا لو تعود ولو للحظات لنقول لك؛ كم نحن نحبك؛ وكم أنت غال علينا؛ وكم هي "الحياة" تعيسة في غيابك. لقد اشتقنا لخفة دمك؛ وابتسامتك الحلوة التي تنير وجهك. أنت أبو الشهامة والأمانة والصدق والوفاء. تأكد يا أبانا أنك بعملك وسلوكك وخلقك خلدت اسمك في التاريخ. اللهم ارحم والدنا واغفر له". – وخطت كاتبته الخاصة كلمة خاصة لهذا المقال: "أستاذي وأبي؛ أيها الإنسان الطيب نبع العلم والليونة والأخلاق؛ مهما سطرت من حروف حزينة فلن أوفيك حقك لما قدمته من عطاء وإيثار. طيلة عملي معك مدة تتجاوز عشرين سنة؛ لم تكن فيها فقط رئيسي؛ بل الأب العطوف الذي يحب كل مساعده بإنسانيته وسعة صدره؛ لم تكن وأنت الرئيس تأمر بل تطلب في رقة وحنو وأدب القيام بعمل ما في إطار وظيفتنا. عزاؤنا الوحيد؛ أن الرجال أصحاب الهمم العالية لا يرحلون". – وقال لي السيد عبد الحنين التوزاني؛ المدير العام الحالي للمعهد ونائب ورفيق درب المرحوم في المعهد عقدا من الزمن: "عبد المجيد غميجة بكل صفاته وأخلاقه وتواضعه وإنسانيته؛ هو في نظري ولي من أولياء الله الصالحين". ثالثا: المسارات المهنية للراحل – كانت شهادة الإجازة في القانون في ذلك الوقت الذي حصل فيه عليها الفقيد؛ تفتح أمام حامليها عدة أبواب للعمل؛ المحاماة؛ القضاء؛ الوظيفة العمومية؛ القطاع الخاص. لا نستطيع التكهن بما كانت عليه نوايا وآمال الشاب عبد المجيد؛ لكن ما هو مؤكد أن اختياره وقع على القضاء؛ أكثر المجالات إرهاقا وتعبا ومسؤولية. – التحق بالمعهد الوطني للدراسات القضائية بالرباط ضمن الفوج الحادي عشر. وبعد فترة التكوين والتدريب؛ اجتاز بنجاح وتفوق امتحان التخرج؛ سنة 1983 وكان الأول على الفوج بين أقرانه. – قراءة في تاريخ الحياة المهنية النشطة للمرحوم عبد المجيد غميجة؛ تبين أن الرجل لم يكن حبيس عمل واحد أو حياة مهنية واحدة؛ أو مسار محدود بعينه. لكن المؤكد أنه لم يكن يسعي أو يطلب المناصب أو المهام العديدة المتنوعة المشارب والمختلفة الاتجاهات والطبيعة؛ التي قام بها ومارسها طيلة حياته المهنية الغنية بالعطاء، فقد كانت هي التي تبحث عنه وتسعى إليه؛ فلم يعرف عن عبد المجيد غميجة؛ الرجل الهادئ الخجول الطيب المستمتع بعمله كقاض؛ أنه رغب عنه أو سعى لعمل آخر؛ بديل أو مواز؛ سواء بحثا عن المال أو الشهرة أو السلطة والمسؤولية. لكن قدره كان غير ذلك. – حياة عبد المجيد غميجة؛ خريطة متقاطعة التضاريس والاتجاهات والمحطات المختلفة نوعيا وكيفيا. – حياة عبد المجيد غميجة المهنية؛ مسارات متعددة؛ أحيانا تتقاطع وتتداخل مع بعضها البعض في الوقت نفسه والزمن والمكان؛ مما كان يشكل له إرهاقا وتعبا كبيرين؛ يأخذان من صحته وأسرته، وأحيانا تختلف تلك المهام الموجودة في الوقت نفسه؛ ولكنها كالنهر الكبير؛ يتفرع في طريقه إلى سواق غير منظمة هندسيا؛ ولكنها تؤدي المهمة الأصلية نفسها؛ يترك تفرعاته تسير في خطها الذي رسمته الطبيعة؛ فيما يواصل هو مسيره نحو المصب. – لا أحد؛ يستطيع تحديد كيفية رسم تلك المسارات؛ إذ عدا المسار الأصلي الرئيس وهو القضاء؛ والمسار الفرعي بشأن البحث الجامعي العالي؛ اللذين اختارهما عن وعي وإرادة منه؛ فإن بقية المسارات الفرعية ولدت وعاشت في ارتباط مع المسار الأصلي؛ تارة؛ أو استقلال عنه تارة أخري؛ دون سعي منه أو بحث عنها. المسار الأصلي للرئيس.. القضاء – بعد تخرجه من المعهد؛ عين طبقا للقانون الأساسي للقضاة؛ سنة 1983 قاضيا نائبا بالمحكمة الابتدائية بطنجة؛ ثم قاضيا رسميا بها لمدة استمرت إلى سنة 1994؛ مر خلالها بجميع الغرف؛ مارس وحكم في كل أنواع القضايا والنزاعات التي تدخل في اختصاصها؛ كما كان نائبا للرئيس في بعض مهامه القضائية؛ فاكتسب تجربة غنية؛ أهلته للترقية والتعيين قاضيا مستشارا بمحكمة الاستئناف بطنجة. – سنة 1997 أنشئت المحاكم التجارية بالمغرب؛ كقضاء متخصص مستقل الكيان والهياكل؛ لكن في إطار المنظومة القضائية الوطنية القائمة على فكرة التخصص في إطار الوحدة البنيوية العامة. أعطى القانون المحدث لهذه المحاكم؛ مكانة هامة للنيابة العامة لحماية النظام العام الاقتصادي. كان المفروض أو المنتظر أن يتم اختيار وكلاء الملك لدى هذه المحاكم من بين قضاة النيابة العامة العاملين فعلا في المحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف؛ وهو ما تم بالنسبة لعدد منها، لكن القدر كان يخبئ للمرحوم غميجة مفاجأة لم يكن ينتظرها أو يتوقعها؛ فقد استقر قرار المجلس الأعلى للقضاء؛ [المجلس الأعلى للسلطة القضائية حاليا] على اختياره وتعيينه وكيلا للملك بالمحكمة التجارية بفاس العاصمة العلمية للمملكة منذ قرون. وهكذا ترك المستشار قاضي الحكم مقعده بمحكمة الاستئناف بطنجة إلى مقعد جديد لم يألفه لا مهاما ولا آليات عمل؛ وكان ذلك سنة 1998. كانت تجربة -رغم قصر مدتها- فريدة وغريبة في الوقت نفسه على الرجل نفسه الذي اعتاد العمل في سكينة وهدوء مع ملفاته والقضايا المكلف بها؛ ليجد نفسه أمام عالم جديد؛ عالم النيابة العامة؛ رغم اختلاف المهام والاختصاصات عن مثيلتها في المحاكم الأخرى. وكعادته حول غميجة الدهشة وجدة المهمة الجديدة إلى مجرد تغيير في المهمة في الإطار نفسه. وكما كان وهو قاض جالس للحكم؛ مجتهدا؛ باحثا وعادلا؛ فقد مارس اختصاصاته الجديدة بنفس الروح والعزيمة؛ خاصة وأن المجال الجديد كان يفرض عليه تغييرا في منهجية العمل والتحول من الاجتهاد لاتخاذ قرار الفصل بين المتخاصمين؛ إلى حام وراع للنزاهة الاقتصادية؛ ومعين لا غنى عنه لقضاة الحكم في المحكمة الجديدة؛ بمستنتجات قانونية تساعدها في البحث عن الحقيقة في ما يعرض عليها. – يظهر أن هذا التغيير والتحول من قاضي الحكم إلي قاض النيابة العامة؛ كان له أثر غير متوقع ولا منتظر على المسار المهني للقاضي عبد المجيد غميجة. لقد كانت المهمة الجديدة التي قام بها في المحكمة التجارية بفاس؛ بداية لمسارات أخرى جديدة في الحياة المهنية للرجل. – بداية من سنة 1999؛ سيتغير المسار المهني للرجل -دون سعي منه-وسينتقل عبد المجيد غميجة من قاض يحكم؛ أو وكيل للملك يترافع حماية عن النظام العام الاقتصادي؛ إلى رجل جديد؛ في نفس الجلباب والإطار؛ رجل محتفظ بصفته القضائية الأصلية الملتصقة به لكن في جبة رجل دولة. – سيتخلى عبد المجيد غميجة دون رغبته؛ عن البذلة السوداء للقاضي؛ ليلبس بذلا أخرى معظمها تمت خياطته من نفس الثوب الذي خيطت به بذلة القاضي مع اختلافات في النموذج ومجالات الاستعمال؛ والاحتفاظ بالهدف الرئيس وهو خدمة العدل والعدالة. المسارات الفرعية المرتبطة بالقضاء – بدءا من هذا التاريخ؛ ستتحول الحياة المهنية للقاضي غميجة، وسيعرف مساره القضائي الأصلي تحولا وتغييرا جوهريين في المهام وأدوات العمل؛ مع الاحتفاظ دوما بالغاية النهائية الأساسية وهي حماية الحق والقانون. 1) عند تشكيل حكومة التناوب التوافقي الأولى أواخر 1998؛ تم تعيين الأستاذ الدكتور عمر عزيمان وزيرا للعدل. هو واحد من خيرة أساتذة القانون بالمغرب شغل زمنا رئاسة شعبة القانون الخاص؛ وكرسي القانون المدني بالقسم الفرنسي بكلية الحقوق – أكدال جامعة محمد الخامس بالرباط؛ على مستوى الإجازة والدكتوراه؛ وله مساهمات متميزة ومداخلات وتدخلات علمية مرموقة وطنيا ودوليا. – كان على الوزير الجديد البحث والتقصي عمن يكون رئيسا لديوانه؛ له دراية بالقطاع ويتمتع بخصال تؤهله من جهة لثقة الوزير؛ وتعينه على معرفة دهاليز الوزارة وخباياها. لا أحد يعرف كيف وقع اختيار الوزير عزيمان على القاضي عبد المجيد غميجة؛ رئيسا لديوانه؛ وهو منصب يعرف الجميع أنه كاتم الأسرار للوزير ورابط الاتصال بينه وبين العالمين الداخلي والخارجي للوزارة؛ وهما معا ملتهبان. – لكن ما يمكن قوله إن الشخصين كانا متوافقين متلائمين في الطباع الهادئة؛ والنزاهة الفكرية وفي الكتمان والعفة والنزاهة والخلق الحميد. 2) يظهر أن هذه المرحلة كانت بداية طلاقه النهائي من قاعات المحاكم والقضايا والمنازعات. كان القدر يهيئ له مسارا جديدا بعيدا عنها؛ ولكن في قلب مركز القرار بشأن ما يتعلق بإدارة شؤون القضاء. فقد تم تعيينه سنة 2001 مديرا لمديرية الدراسات والتعاون بوزارة العدل. وهي المهمة التي ظل يشغلها إلى سنة 2010. كان عمل المديرية ينصب حول إعداد الدراسات المختلفة ذات الصلة بمهام الوزارة؛ وبالمنظومة القضائية من جهة أخرى؛ وفي الشق المتعلق بالتعاون؛ كان عملها يتجلى في إبرام الاتفاقيات القضائية الدولية بين المغرب وبقية دول العالم في مختلف المجالات القانونية القضائية. وقد تم في فترة تولي المرحوم غميجة مسؤولية المديرية؛ وضع عدد كبير من الاتفاقيات الدولية الثنائية للتعاون القضائي المغربي العربي والأوروبي والإفريقي والدولي. كانت بصمات المرحوم واضحة في موادها ومقتضياتها المختلفة. أما مهمة التحديث فكان المقصود لها ومنها؛ التحديث المادي والتكنولوجي لأدوات العمل القضائي في المحاكم؛ والتطوير الفكري للاختيارات الكبرى ذات الصلة بالمنظومة القضائية المغربية. 3) سنة 2010؛ حل بوزارة العدل وافد جديد لم يكن غريبا عن قطاع العدالة. تم تعيين النقيب محمد الناصري وزيرا للعدل؛ وهو شخصية مرموقة ولامعة في عالم المحاماة؛ وله موقع متميز فيها. وككل وزير جديد غريب عن الوزارة؛ فإنه بحث هو أيضا عن كاتم سر مناسب. وقع اختياره على المرحوم غميجة؛ الذي كان قد استقر به المقام في مديرية الدراسات؛ وألف العمل فيها واستهواه؛ ليكون رئيس ديوانه مع احتفاظه بمديرية الدراسات؛ وهو ما كان يثقل كاهله بمهام كثيرة ومسؤوليات جسام؛ كان أهلا لها. 4) أمسكت وزارة العدل بقوة بتلابيب المرحوم غميجة. كانت تجربته في المديرية ورئاسة ديوان الوزير مرتين؛ قد أعطته شحنة قوية من التجربة في مجال التسيير الإداري؛ فتم تعيينه كاتبا عاما للوزارة سنة 2011. يشهد كل المقربين منه وكل العاملين في الوزارة بمختلف مواقعهم ومسؤولياتهم؛ وكل رجال ونساء القضاء؛ أن فترة تحمله هذه المسؤولية -على قصر مدتها- كانت من أزهى فترات الكتابة العامة بالوزارة. كان غميجة يتمتع -بما حباه الله من قبول وحسن الخلق- برضي الجميع؛ فقد كان يحسن التواصل واتخاذ القرارات المناسبة دون إثارة أي حساسية أو استياء. 5) عرفت هذه الفترة حدثا بالغ الأهمية بالنسبة لمستقبل قطاع العدالة في المغرب. فبتاريخ 8 ماي 2012 قام جلالة الملك محمد السادس بتنصيب الهيأة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة بالمغرب. – كانت الهيأة العليا تتركب من أربعين عضوا من مختلف المشارب والمؤسسات ذات الصلة؛ وكان من بينهم المرحوم غميجة. وفي بداية عملها قررت الهيأة العليا تشكيل كتابة للهيأة مهمتها الأعمال التنظيمية والإجراءات الإدارية المتعلقة باستدعاء الأعضاء وتنظيم الجلسات؛ والعناية بالوثائق والمحاضر؛ وإعداد التقارير عن مختلف الأشغال المنجزة في إطار أعمال الهيأة. كانت الكتابة تتكون من قضاة وأطر وزارة العدل والحريات [كما كانت تسميتها]. وكان يرأسها رئيس المحكمة الدستورية الدكتور محمد أشركي؛ ومقررها المرحوم غميجة بصفته الكاتب العام للوزارة. كان عمل هذه الهيأة شاقا ومتعبا لدرجة لا توصف؛ وكان مطلوبا منها الدقة والتتبع الكامل لكل الأعمال وإعداد المخرجات والتقارير. كما كونت الهيأة أيضا من بين بعض أعضائها البارزين لجنة مصغرة للصياغة. كان عملها؛ تلقي تقارير اللجان ومجموعات العمل المكونة في إطار الهيأة؛ والتنسيق بينها؛ مع ما تتوصل به من ملاحظات واقتراحات مكتوبة بعثتها العديد من الهيئات والمنظمات المهنية ومكونات المجتمع المدني. ثم إعداد وصياغة الوثيقة التي ستشمل القرارات والتوصيات العامة والخاصة. وهي الوثيقة التي عرضت على الهيأة بكامل أعضائها؛ التي بعد مناقشتها وتعديل ما يستوجب ذلك؛ صادقت عليها؛ وتم رفعها لجلالة الملك الذي صادق عليها ونوه بها وبأشغال الهيأة في خطاب العرش لسنة 2013. 6) في نفس سنة 2013؛ عرف مسار المرحوم غميجة تحولا جذريا عميقا؛ ربما كان الأكثر قربا لقلبه وعقليته ومزاجه. فقد تم تعيينه مديرا عاما للمعهد العالي للقضاء؛ وهي المؤسسة الموكول إليها مهمة تكوين وإعداد قضاة المستقبل من الشباب الحاملين للشهادات الجامعية التي يتطلبها القانون. – وقد تم تجديد تعيينه في هذا المنصب بتاريخ 31 أكتوبر 2018؛ لكن القدر لم يمهله طويلا. – كان وراء الفقيد غميجة وأمامه؛ وهو يتقلد المنصب الجديد ويبدأ خطواته الأولى؛ توصيات الهيأة العليا لإصلاح منظومة العدالة؛ ومنها بصفة خاصة ما يتعلق بتكوين قضاة المستقبل؛ وتجويد وتحسين شروط أداء الوظيفة القضائية بالنسبة للعاملين فعلا في المحاكم؛ وهو ما يطلق عليه التكوين المستمر. – كانت هذه التوصيات تضع سقف التحديات عاليا؛ وآفاق التغيير والتطور واسعة وعظيمة. – تمثل المدير العام الجديد نفسه طبيبا؛ عليه تشخيص حالة المريض الجالس أمامه. فمنذ الأيام الأولى لتوليه مسؤولية إدارة المعهد؛ انكب على تشخيص الحالة العامة للمعهد وتحديد أشكال المواجهة والعلاج المناسب؛ فوضع تقريرا أوليا لهذه الوضعية حدد فيه الحالة ووضع تصوراته للمستقبل بخصوص كل ما يدخل في اختصاص المعهد؛ توافقا مع توصيات اللجنة العليا. – استفاد المرحوم من تجربته السابقة على رأس مديرية الدراسات والتعاون والتحديث بالوزارة؛ فأطلق مشروعا جبارا؛ سار فيه من جهة على درب من سبقوه في ما وضعوه من مشاريع وأفكار تتعلق بتكوين قضاة المستقبل؛ وزاد عليه؛ من جهة أخري؛ ما اكتسبه من خبرات سابقا فكانت النتائج باهرة والآثار لافتة للنظر. – كانت بصمات التدبير الجيد والأفق البعيد والتصور العقلاني؛ واضحة في كل ما قام به من أعمال طيلة مدة وجوده على رأس المديرية العامة للمعهد. – وقد تجلت آثار أفكاره ومعالم بصماته البارزة في عدد كبير من المحاور يمكن حصرها في الآتي: أ) محور التكوين: يتوجه هذا المحور نحو أربع فئات من المعنيين بقطاع العدالة؛ وهم الملحقون القضائيون أي الطلبة القضاة الملتحقون بالمعهد للتكوين، القضاة والمسؤولون القضائيون العاملون فعلا؛ وهيأة كتابة الضبط؛ وبعض المهن شبه القضائية المرتبطة بالقضاء. – ففي ما يتعلق بالتكوين الأولي الأساس للملحقين القضائيين الملتحقين بالمعهد لأول مرة؛ فقد تمحور برنامج التكوين لهم حول ثلاثة مجالات؛ أولها هو إضافة مواد تكوين نظرية جديدة؛ تضاف لما كان موجودا؛ وهي علم الفرائض؛ علم التوثيق؛ علم المحاسبة؛ التحكيم التجاري؛ تقنيات تحرير الأحكام؛ وثانيها؛ تمثل في وضع وإنجاز دلائل تطبيقية عملية تعين الملحق القضائي في المعهد وبعد تخرجه وتعينه. وقد أشرف المرحوم على صياغتها وإعدادها وهي على التوالي؛ دلائل في مادة حوادث السير والمسطرة المدنية؛ والمادة العقارية؛ ودليل خاص بتقنيات تحرير الأحكام يعزز ما تلقه الملحقون نفي المدرجات؛ وهي كلها أدوات وآليات عمل القاضي. ولما كان الملحق القضائي ملزما بمقتضي قانون المعهد؛ في نهاية مدة التكوين بإعداد مذكرة أو بحث موضوع يدخل في إحدى مواد الدراسة أو غيرها من فروع القانون الأخرى؛ فقد اهتم الفقيد بإعداد دليل منهجي خاص بإعداد هذه المذكرات. – أما بالنسبة للتكوين المستمر؛ فقد تم التركيز فيه على الإدارة القضائية؛ وكان موجها للمسؤولين القضائيين في مختلف المحاكم؛ القدامى والجدد منهم على السواء. كان الغرض من هذا التكوين تمكين المعنيين به من أدوات التسيير والتدبير في المحاكم التي يرأسونها أو التي يتولون رئاستها لأول مرة. – كان طبيعيا أن ينصرف الاهتمام في هذا الإطار لهيأة كتابة الضبط بالمحاكم والتي لها دور كبير وفعال في المنظومة القضائية؛ باعتبارها دينامو وعصب الحياة في المحاكم؛ فأشرف على تنظيم دورات تكوين أولي للجدد منهم ومستمر للآخرين. – أخيرا؛ لم يكن هناك بدُّ من مد إشعاع فكرة التكوين لمساعدي القضاء من محامين ومفوضين قضائيين وأيضا لبعض المهن ذات الصلة كمهنة العدول والموثقين. وهكذا أبرم عدة اتفاقيات تعاون وشراكة مع جمعية هيئات المحامين بالمغرب وبعض الهيئات الأخرى على مستوي محاكم الاستئناف؛ من أجل تكوين عملي للمحامين المتمرنين وتحسين وتطوير تكوين الرسميين الذين لم يكتسبوا بعد الخبرة والتجربة بعد ما أصبحوا رسميين مستقلين بأنفسهم. ب) التعاون الدولي: كان هاجس الانفتاح على التجارب الدولية المقارنة في مختلف مناحي العدالة؛ دافعا للمرحوم غميجة للعمل على إبرام عدد من اتفاقيات التعاون وتبادل الخبرات مع جمعيات ومنظمات مهنية في إفريقيا وأوروبا وغيرها. – كما كرس تقليدا دوليا معمولا به يتمثل في إبرام اتفاقيات توأمة وتعاون مع معاهد القضاء العربية والأوروبية والإفريقية؛ مما فتح الباب أمام استقبال عدد من منتسبي تلك المعاهد لمتابعة دورات تكوينية أو حتى متابعة الدراسة والتكوين بصورة منتظمة مع إخوانهم المغاربة. ج) إن ارتباط العمل القضائي تنظيما وأحكاما بحقوق الإنسان؛ دفع الفقيد إلي إنجاز دراسة حول قيم حقوق الإنسان في مجالات علاقات الشغل؛ وأبرم اتفاقية عمل في هذا الصدد مع معهد راؤول والينبرغ السويدي المعروف عالميا في هذا المجال؛ برنامج عمل وتعاون؛ والشيء نفسه مع وكالة جيز للتعاون المغربي – الألماني. د) انتبه الفقيد لأمر هام في مجال تكوين الملحقين القضائيين ؛ وهو تصور العمل المستقبلي في قاعات المحاكم وشروط جريان المحاكمات، لذلك أحدث تدريبا عمليا جديدا هو ما يعرف بالمحكمة الصورية أو على الأصح المحكمة الافتراضية؛ وهو تدريب يقوم على تصور محاكمة في أي صنف من الاختصاصات؛ وتدريب الملحقين القضائيين على القيام بالأدوار التقليدية في أي محاكمة؛ وهيأ لذلك قاعة في المعهد تشبه قاعة الجلسات في المحكمة؛ وفيها تقام محاكمات مختلفة يقوم فيه الملحقون بنفس الأدوار العادية في قاعات الجلسات بالمحاكم؛ وهو ما يزيل عن الملحق رهبة الدخول لأول مرة لقاعة جلسات بعد تخرجه والتحاقه بمحكمة ما. ه) أخيرا؛ فإن اهتمام الراحل لم يقتصر على ما ذكر؛ بل اهتم أيضا بشروط العمل الإداري وشروط التحصيل والحصول على المعلومات عندما يحتاجها الملحق خلال فترة التكوين؛ وهكذا طور الحظيرة المعلوماتية بالمعهد وجددها وجود آليات استخدامها لتكون قادرة على تلبية كل الطلبات ذات الصلة بنشاط وعمل المعهد إداريا وعلميا؛ وتيسر التواصل بينه وبين المعاهد والمؤسسات الأخرى المماثلة أو المرتبطة بنشاطه الرئيس. 7) سنة 2014؛ وقع حدث هام في إطار تفعيل مخرجات ميثاق إصلاح العدالة. فقد شكل وزير العدل والحريات لجنة خاصة مختلطة؛ ضمت مسؤولين قضائيين من مستويات وتخصصات مختلفة؛ وممثلين عن القطاعات المرتبطة بالقضاء؛ وهي على التوالي؛ المحاماة؛ كتابة الضبط؛ مديرية الشؤون المدنية ومديرية التشريع بالوزارة؛ فضلا عن الجامعة. كانت مهمة اللجنة إعادة النظر في قانون التنظيم القضائي المعتمد وقتها منذ 1974؛ ليتلاءم مع المستجدات القائمة فعلا؛ المتمثلة في وجود محاكم مختصة بقوانين مستقلة تتضمن مقتضيات تتعلق بالتنظيم القضائي والمسطرة في آن واحد، وأيضا مع مخرجات ميثاق إصلاح العدالة. كان التوجيه الأولي المعروض على اللجنة من الوزارة؛ هو إدخال تعديلات على النص بصورة تزيل حالة التشرذم التشريعي القائمة. أسند الوزير رئاسة اللجنة للمرحوم عبد المجيد غميجة إضافة لمهامه مديرا عاما للمعهد. بعد المداخلات الأولي لأعضاء اللجنة والتي كانت مرتبطة بفكرة الترقيع؛ اعتبر المرحوم أن قانون 1974 هو نتاج مرحلة انقضت وانتهت؛ وأن بنيته وهيكلته غير قابلتين على حالتهما للتجميل؛ وأن تطورات كثيرة حدثت في المشهد الدستوري والقضائي في قوانين الشكل والجوهر؛ تقتضي أفكارا جديدة ورؤية مغايرة حتى يكون النص المرتقب متوافقا قدر الإمكان مع الدستور ومع الوضعية القائمة للمؤسسات القضائية. واقترح أن ينصب عمل اللجنة على وضع نص جديد تماما مع إمكانية استخدام بعض ما جاء في النص القائم؛ إذا دعت الضرورة. وقع الاقتراح موقعا حسنا في نفوس الأعضاء الذين ارتاحوا له وقد صدر عن شخص مسؤول؛ يعرف ما يفعل وما يقول. كانت للمرحوم قدرة خارقة على الاستماع والاستيعاب والتوفيق بين الآراء المختلفة وأحيانا المتضادة. كان يتمتع باحترام وتقدير جميع أعضاء اللجنة؛ مما جعل أعمالها تسير بصورة جيدة وسريعة؛ واستطاعت خلال عدة أسابيع من العمل المتواصل؛ وضع مشروع نص جديد للتنظيم القضائي؛ يضم كل المقتضيات المتعلقة بالتنظيم القضائي المدرجة في بعض القوانين المستقلة؛ مع هندسة جديدة وأفكار مبتكرة تساير مقتضيات الدستور الجديد وتفعل توصيات ميثاق إصلاح العدالة. مسار البحث الجامعي والفقهي 1) يظهر أن طموح الشاب غميجة بعد حصوله على الإجازة في القانون؛ كان كبيرا ولكن غير ثابت على توجه بعينه بخصوص مستقبله المهني؛ ولذلك خاض مغامرة -لا ندرى إن كانت محسوبة الخطوات أو لا- وهي متابعة الدراسة الجامعية العليا. التحق بقسم الدكتوراه بكلية الحقوق – أكدال بجامعة محمد الخامس بالرباط؛ حيث نجح تواليا في شهادتي القانون المدني وقانون الأعمال بدبلوم الدراسات العليا سنتي 1980-1981. كان النجاح الكامل في مرحلة الدبلوم يقتضي إنجاز رسالة ومناقشتها. وهو ما تحقق فعلا. لم يتوقف طموح عبد المجيد غميجة؛ المتوثب للمعالي؛ والمشتعل رغبة في الدراسة والبحث؛ عند هذا الحد. كان طموحه الفكري وحماسه للبحث الفقهي؛ يحثانه على مواصلة الطريق إلى نهايتها. ولأنه مغامر فكري يقظ صبور؛ فقد اختار موضوعا صعب المنال؛ معقد المناحي؛ متشابك المسارات؛ جديدا في موضوعه وغاياته. كان موضوع الأطروحة التي قرر الفقيد إنجازها هو "موقف المجلس الأعلى [محكمة النقض حاليا] من ثنائية القانون والفقه في مسائل الأحوال الشخصية"؛ هو موضوع معقد يجمع بين النظري والعملي؛ بين الفقه الإسىلامي بكل تعقيداته وتلاوينه ومدارسه ومذاهبه والقانون الوضعي المغربي في مجال الأحوال الشخصية. كان تحديا كبيرا؛ السقف فيه مرتفع وعال جدا؛ والرهان صعب من جميع النواحي. لكنه قبل التحدي الذي أخذ منه زمنا وصحة؛ إلى جانب ما كان يتطلبه منه العمل القضائي الأصلي ثم الأعمال الأخرى التي أشرنا إليها. لكن عبد المجيد غميجة رجل التحديات بامتياز؛ استطاع رغم كل الصعوبات ومشاق مختلف المهام والمسؤوليات التي تحملها؛ تحقيق أمله وإنجاز الأطروحة تحت إشراف أحد كبار القانون الوضعي المغربي المعاصر وأحد كبار فقهاء الفقه الإسلامي المتنورين؛ الأستاذ أحمد الخمليشي الأستاذ الباحث بكليات الحقوق وجامعة القرويين والمدير الحالي لدار الحديث الحسنية. كان الموعد التاريخي لإنهاء هذه المرحلة يوم 28 يوليوز 2000؛ تاريخ مناقشة الأطروحة بمدرج كلية الحقوق- أكدال بالرباط؛ بحضور جمع غفير من طلبته السابقين في المعهد؛ وزملائه في القضاء؛ وأصدقائه المختلفين. وبعد مناقشة دامت عدة ساعات دافع فيها المترشح الباحث عن أفكاره وخلاصاته الفكرية بحماسه الهادئ ومهارته في الإقناع؛ قررت لجنة المناقشة استحقاقه لدرجة الدكتوراه في الحقوق بميزة حسن جدا؛ مع التوصية بالنشر. وقد قامت جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية [التي كان له الفضل في تأسيسها وكان أول رئيس لها] سنة 2007 بنشر البحث وإخراجه للوجود ليستفيد منه الجميع. 2) تفجرت طاقة البحث والكتابة القانونية عند عبد المجيد؛ فكتب عشرات المقالات والدراسات التي نشرت في عدد من المجلات المتخصصة؛ لا يسع المقام لذكرها. مسارات مختلفة ومتنوعة – موازاة مع كل هذه الأنشطة والمهام الجسام المستنفذة للجهد والطاقة العقلية والبدنية؛ استطاع المرحوم؛ بديناميته الهادئة ورحابة صدره؛ وقوة صبره وجلده؛ الجمع بين المتناقضات زمنا وموضوعا؛ والعمل بنفس الجهد والسخاء الفكري تحت لافتات مختلفة. 1) كان التعليم والتدريس عنصرا فارقا في الحياة المهنية للراحل العزيز، مارسه بهواية ولكن باحترافية ومهنية عاليين. كان أستاذا زائرا بالمعهد العالي للتعمير بالرباط؛ وأستاذا زائرا بكليات الحقوق بالسويسي وأكدال؛ بجامعة محمد الخامس بالرباط؛ مدرسا لمادتي التنظيم القضائي والمسطرة المدنية بقسم الإجازة ثم حقوق الإنسان بالماستر. وإلى جانب ذلك؛ لم يكن يرد أو يرفض الدعوات الموجهة إليه للمشاركة في لجان المناقشة الخاصة برسائل الماستر والدكتوراه بكليات الحقوق بجامعة محمد الخامس وجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس؛ وجامعة محمد الأول بوجدة؛ وجامعة القاضي عياض بمراكش. 2) موازاة مع ذلك وفي خضمه؛ عمل غميجة خبيرا غير متفرغ لدي عدد من المنظمات والمؤسسات المغربية والعربية والدولية؛ وعضوا في عدد من اللجان. ومن ذلك؛ عضوا في محكمة الاستثمار التابعة لجامعة الدول العربية وعضوا في اللجنة المكلفة بوضع مشروع قانون استرشادي عربي لجرائم المعلوميات؛ وعضوا في اللجنة العربية لتطوير العدالة في العالم العربي؛ وخبيرا لدي مجلس وزراء العدل العرب؛ ورئيسا للجنة برنامج التوأمة بين المعاهد القضائية بالمغرب وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا؛ وعضوا في مؤسسة التكوين القضائي التابعة للمجلس العام للسلطة القضائية بإسبانيا وغيرها كثير. وعلى المستوي الوطني كان عضوا في اللجنة الوطنية للطعون الجبائية؛ وعضوا في لجنة تدبير الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات؛ وعضوا في اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي؛ وعضوا في مجلس إدارة المركز المغربي للوساطة البنكية وغيرها.... التكريم والتشريف الملكيان – تم تكريم المرحوم عبد المجيد غميجة خلال حياته بعدة أوسمة ملكية مغربية وأجنبية: – وسام العرش بدرجة فارس؛ وسام المكافأة الوطنية بدرجة ضابط كبير. – وسام المملكة الإسبانية. حسن الختام: تعرض المرحوم عبد المجيد غميجة خلال السنة الأخيرة من حياته لمرض عضال لم ينفع فيه علاج، وأسلم الروح الطاهرة لباريها يوم 18-12- 2018 وشيع جثمانه الطاهر ودفن في محفل رهيب مهيب ونزل الستار على حياة رجل لم يجد ولن يجود الزمان بمثله؛ قضاها مناضلا مكافحا في خدمة العدالة والحق والقانون. رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته مع الصادقين والأخيار.