وكعادتها، أعدت العشاء وانتظرت عودة زوجها من العمل. أما الأطفال فيستعدون للدخول المدرسي في غرفة المعيشة، ويفحصون الكتب المدرسية والدفاتر وغيرها. كان جوهم مليئا بالضوضاء. لا تبالي فاطنة كثيرا بذلك لأن في شغبهم ومناقشاتهم وشجارهم عالم سعيد، يملؤها بالدفء والحنان. تقطن فاطنة بيتا صغيرا على التلة المطلة على الوادي... على الرغم من بساطته، إلا أنه مملكتها الصغيرة... سمعت الباب ينفتح ووقع أقدام زوجها في البهو مصحوبة بحنحنة مصطنعة لاخبار الأطفال بقدوم أبيهم، إنها عادات سكان الجبل. اقترب الزوج من فاطنة، ويسألها كعادته: هل كل شيء على ما يرام؟ ... فأجابت بسرعة أن كل شيء بخير... وبدأت تروي له شغب أطفاله الأربعة ... وأخيرا همست: "كبرت "تودرت"، يجب أن نشتري لها بعض الملابس للمدرسة... فابتسم زوجها وهز رأسه موافقا، وقال: "بعد غد السوق، خذها لتختار"، ثم قائل "أنا متعب، يجب أن أستيقظ مبكراٌ لأن لدي عمل إضافي صباح الغد"... كانت الساعة تقارب الحادية عشر ليلا من يوم الجمعة 8 شتنبر 2023، يوم لن تنساه فاطنة ... سكن البيت... أما هي، ذهبت تعد الطعام لزوجها ليوم الغد كعادتها... لم تمضي سوى بعض الدقائق، بدأت الأرض من حولها تهتز... ما هذا؟ هل يمكن أن تكون شاحنة كبيرة تمر بجوار منزلها؟ لم تظن قط في أن الأرض كلها تتحرك تحت قدميها.. ولم تكن تعلم أن جبال الأطلس الشامخة تنتفض لتغير من موقعها... لم يساورها شك في أن الأرض تحت قدميها تتشق لتهشم كل شيء... خرجت من المنزل لتستطلع الأمر... وسمعت صوت انهيار... التفتت... يا للهول... بيتها ... صرخت بأعلى صوتها ... نادت أطفالها الواحد تلو الآخر، يا "تُودَرتِ"...يا "أمْغاس"... يا "أيور"... يا "أسِيرم"... نادت زوجها يا "نفيس"... لم تصدق ما تراه... بدأت تنبش في الركام، وتصرخ... يا أيها البيت، كيف يمكنك أن تسقط على أجساد أحبّتي... يا أرض، كيف لك أن تهزي بيتي وتحطمي آمالي... يا جبال الأطلس، لم يعد لي أحد... صرخت بأعلى صوتها تنحب حظها العاثر... آه، يا ويلتاه... الزلزال حطم حياتي... أين أنتم يا أطفالي، يا زوجي، يا سندي في الحياة... ألقت بجسدها على الركام لا تبالي ان حطم بعض من بقايا السور جسدها... فلم يعد بداخلها أية روح... أغلى ما تملك، اختفى بين الأنقاض... لم تعلم فاطنة أن صدى صرختها وصل كل ربوع الوطن، لقد هب المغرب ليواسيها ويخفف عنها... انطلقت القوافل التضامنية من كل مكان... اصطف المواطنون/ات للتبرع بالدم لساعات طويلة ... يا فاطنة... يا أهل الحوز... يا أهل مراكش الحمراء ... يا أحبتي في قرى وبوادي ودواوير ورززات وتارودانت وغيرها... دماؤنا فداء لكم ولكن... دماء الملك فداك يا فاطنة... انهضي من تحت الأنقاض... يدا في يد سنبني وطننا ... يا فاطنة، كل أبناء الوطن هم أبناؤك... لستِ وحدك ... انهضي يا فاطنة، انظري حولك، فقوافل الحب والعطاء قادمة من كل شبر من وطني الحبيب، ينتشر كالنحل على الرحيق تصرخ نحن قادمون/ات ... اعلمي يا فاطنة أنها هذا ليس مجال للمزايدات السياسية أو الاسترزاق السياسي من أية جهة كانت داخلية أو خارجية، بل هو شعور الانتماء للوطن ... إنها المسيرة الحمراء ... حمراء بدم المتبرعين/ات ... سجل أيها التاريخ أن المغرب قادر على أن يمسح دموع أمهاته ويلبي صرخة فاطنة... أبناء وبنات الوطن قادرون/ات على حماية وطني بالغالي والنفيس، دماؤنا فداك يا وطني... على الرغم من كل المشاكل والأزمات، نحن نعتز بتاريخنا وهويتنا... لبيك يا وطني... نموت، نموت ويحيا الوطن، يحيا الوطن... (*) خبيرة اقتصادية