مع كل النقاشات التي يثيرها التقدم التقني ومع كل الجدل الذي يصاحب الحديث عما يسمى بالذكاء الاصطناعي، علينا أن نتذكر دائما أن هذا الإنسان في النهاية، بعقله البشري الطبيعي وبكل ما يعنيه من تكوين وخيال وأغراض ومرام، هو الذي يثوي خلف كل هذه الجلبة، وهو الذي يؤسس، معرفيا وأخلاقيا، سلبا وإيجابا، لكل هذا التحول القيمي المفعم بالهواجس والمخاوف والشكوك. إن الذكاء الاصطناعي أو ما يسمى كذلك هو في النهاية ذكاء مصنوع، اسمه يدل عليه، والذي يتكلف بصناعته وبرمجته وتوجيهه والإشراف على إخراجه هو هذا الكائن البشري، بهذا العقل البشري، بكل ما يحبل به من رهانات ومطامع، وعداوات وصداقات، ونوازع وتشوفات؛ ما يعني أن هذا العقل البشري الصانع هو المعني مبدئيا بسؤال الجدوى الذي يخص المسمى اليوم بالعقل الاصطناعي. لم تعد مشكلة العالم اليوم هي المقارنة بين إيجابيات (التكنولوجيا) وبين سلبياتها ومضاعفاتها، وإنما السؤال اليوم كامن في هذا التحول السريع والمريب للعقل التقني نحو المجهول، في هذا الدفع القسري للبشرية إلى الهاوية، عبر اختيارات خسيسة تقوم على عزل الإنسان وتشييئه وإغراقه في ألوان من التفاهات التي لا تنتهي؛ ما يؤدي إلى تحويل العالم، والعالم غير الممانع أكثر، إلى سلعة صماء، إلى جماعات مستهلكين ومستهلكين، بكسر اللام وفتحها، لا أقل ولا أكثر، استجابة لنداء الليبرالية المتوحشة، التي لا ترى شيئا غير ما تحوزه من أرباح مادية؛ ما يعني أن كل الجهات المعنية بكرامة الإنسان وإنسانيته مدعوة إلى الانخراط جديا في مساعدة هذا الإنسان على الانعتاق من مخاطر التقنية والتي تهدده في أنبل ما فيه، قيمه وأخلاقه ومعانيه. ولنا أن نفكر، هنا، في بعض الآثار المدمرة لتكنولوجيا التواصل التي تمكنت من تحويل الكثير من البشر إلى رهائن ذليلة وإلى كائنات معزولة تقتلها الوحدة ويتهددها شبح الاكتئاب، نتيجة عدم قدرتها على مغادرة أسر التقنية، بمعناها السلبي، وعدم تمكنها من طرح سؤال الجدوى من كل هذه الحكاية، في وقت تقف فيه جل المؤسسات التقليدية عاجزة عن تقديم المساعدة اللازمة والناجعة لهذا الإنسان. إن الهواتف الذكية أو الغبية مثلا لم تعد مجرد وسيلة للتواصل الذي يعني التعارف والتثاقف والتشارك؛ بل أضحت مصدرا وحيدا وأوحد للخبر وللمعرفة وللحقيقة بالنسبة للكثيرين، دون طرح السؤال البدهي: ما هو الخبر أولا؟، وما هي المعرفة تحديدا؟، وأيضا دون امتلاك القدرة على إجراء أية مراجعة، إذ يتحول الإنسان إلى كائن هلامي مسطح يتغذى على الأوهام التي تخاطب الغرائز، عبر تقنية المرئيات، زيادة في التأثير. هل يمكن أن يتحول الإنسان إلى آلة من لحم، تحركها آلة موازية من حديد وأسلاك؟، هل يمكن أن يتحول العقل البشري إلى رهينة في يد عقل اصطناعي، هو من أشرف على إقامته والتفكير فيه ابتداء؟، هل يصنع الإنسان نهايته بيديه ويتجه إلى حتفه برضاه؟، أسئلة يتعين الإجابة عنها من طرف هذا العقل البشري الماكر الذي يريد أن يوهم العالم أن هناك عقلا اصطناعيا منفلتا من ربقة دهاء بشري، يتحمل مسؤولية إيجاده وتوجيهه وتغذيته، بما يشاء وكيفما يشاء، للغاية التي يشاء. إن التوجس من مساوئ الذكاء الاصطناعي هو انعكاس لخوف آخر واقعي، يقف خلفه عقل بشري طبيعي ماكر.