-يجدر بي التنبيه أولا، إلى ملاحظة، ظاهرة الخلط، المقصود أو العفوي، بين مفهومين مختلفين في مصطلح واحد، والحال أن الأمر يتصل بمصطلحين لمفهومين هما: الاعتراض والمعارضة. إن الاعتراض هو مطلق الرفض والتعبير عن الاختلاف والتناقض، والذي قد يتجاوز حدود الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية... نحو العنف المسلح، المنظم (المركزي) أو الفوضوي، بقيادات متعددة، غير أنه لا يقدم بديلا عن النظام الذي يناهضه، وذلك إما: أ-لدواع شخصية أو عائلية.. زعامية، على السلطة والنفوذ وليس حول النظام الاقتصادي-الاجتماعي... نفسه. ب-أو لانطلاقه من اعتبارات أدنى من وطنية: عشائرية – قبلية – طائفية – جهوية... تخلط بين مستويات الصراع، ومن ثم بين وسائله. ت-أو لكونه تحالفا بين أطراف (داخلية وخارجية) لا يجمع بينها جامع موحد، سوى إسقاط نظام الحكم القائم. ث-أو لأنه قد يعكس مطالب فئات أو طبقات آفلة موضوعيا، بالتالي رجعية، فهي لذلك تتغيى إيقاف حركة التاريخ، أو حتى العودة به إلى وضع سابق على النظام القائم (الإقطاع الأوروبي بعد الثورة الفرنسية/الحرب الأهلية الأمريكية...). أما المعارضة، فإنها لا تقتصر على المناهضة، بل تتجاوز ذلك وتبرره، بتقديم البديل الاقتصادي – الاجتماعي... الأفضل عن الوضع القائم. وشرطها لاكتساب المشروعية... أن تكون لها إستراتيجية. -انطلقت الحركات الإسلامية في صيغتها الحديثة (=السلفية) بإستراتيجية واضحة ومضبوطة: أ-الإصلاح الشامل للدين وللتدين وللمؤسسات الدينية (التعليم أساسا) وللمجتمع والإدارة... وذلك بقصد تأهيلها جميعا وحشدها في: ب-مقاومة الاستعمار، بجميع صيغه وأشكاله ومستوياته... عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا... -لقد تمكن الرأسمال الغربي من خلال احتلاله أقطار الجنوب، من إنتاج أو إعادة إنتاج طبقات وسطى محلية، ترتبط بسوقه، وتشترك معه في مصالحه، وسيطة في علاقات الإنتاج، بالتالي: تابعة، هجيتة، أقل وطنية، وأحيانا منعدمة الوطنية (عدمية). هذه، ستحتفظ فقط بالهدف الأول الإصلاحي (انتهى اليوم إلى مفهوم الحداثة) وتدير ظهرها لهدف التحرر والتحرير الوطنيين. منظر هذا التوجه في المشرق كان، محمد عبده، وفي المغرب أبو شعيب الدكالي. في المقابل، فلقد تبلورت تدريجيا، طبقة وسطى محلية، متضررة من وضع الاحتلال الاستعماري، فمناهضته ومقاومته.. في إطار حركات وطنية، اعتبرت لذلك الامتداد الحي والخلاق لإستراتيجية الإصلاح السلفي وحركاته ورموزه (ابن بادس والفاسي مثلا). -تمة توجه آخر في الحركة الإسلامية المعاصرة، سيركز أكثر على البعد الدعوى الاجتماعي وذلك في إطار تنظيم أممي، لا وطني فقط، وذلك انطلاقا من الطابع الأممي للاستعمار نفسه، سيختصر إستراتيجيته في استهداف الخلافة (=الوحدة) الإسلامية. سيعمد هذا التأسيس المعاصر للسلفية الحديثة، على إعادة إنتاج العلاقة الأصلية بين الأطروحتين المؤسستين (إصلاحية عبده وتحررية الأفغاني) وذلك عن طريق توظيف الأولى لخدمة الثانية: لا بأس باعتماد أسلوب المهادنة والمساومة... مع المستعمر مرحليا أو تاكتيكيا، وذلك في مواجهة الأنظمة المستبدة والتي تمنع قيام الوحدة (=الخلافة) التي هي في نظرهم شرط التحرير (الافغاني). القائد المنظر والمؤسس لهذا التجديد كان هو (حسن البنا)، وكان التنظيم الإخواني هو الأداة المؤسسة لنشره وتنفيذه. حملت هذه الأطروحة تناقضاتها، المعرقلة وحتى الانتحارية، معها منذ انطلاقها، الأمر الذي سيرافقها خلال مسارها وفي مختلف ساحات اشتغالها، وذلك في انفجارات متدرجة، متلاحقة ومتراكمة، ومن تم في سلسلة تراجعات شاملة (فكرية، سياسية...) انتهت بها عموما إلى خلاف، بل وإلى نقيض نواياها الأصلية ومقاصدها التأسيسية، فتحولت بها من معارضة إلى اعتراض... يمكن الوقوف على ذلك من خلال الجرد التشخيصي أدناه، وذلك دون اعتبار لبعض الخصوصيات التي قد تميز هذه الحركة أو تلك، في هذه الساحة أو تلك. 1-لم تكن الحركة المؤسسة (الإخوان المسلمون في مصر) عند انطلاقها متناقضة، مع البعدين الوطني والقومي في نضالها وتوجهها الأممي الإسلامي.. غير أنها انتهت راهنا إلى احتقار هذين البعدين، بل وإلى التنكر لهما واعتبار الوطن "دنس" كما عبر أحد مرشديها (؟!) عدم الوعي بالحتمية الموضوعية والمرحلية للنضالين الوطني والقومي.. يعني عدم الوعي بشروط الاستمرار المتجدد للاستعمار، وفرضه على الشعوب المستعمرة والمستضعفة.. مواجهته أولا وأساسا على هذا المستوى التحريري للتراب والتحرري للاقتصاد والمجتمع والثقافة... الخ. هذا الانحراف في الوعي السياسي، سيطول للأسف، الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها (حماس) مع أن شرطها الوطني فاقع الوضوح (؟!) 2-ويرتبط بذلك، موقف الحركات الإسلامية من الاستعمار نفسه، والذي تحول لديها تدريجيا، من مقاومته إلى مهادنته ثم إلى التحالف معه في عدة جبهات (أفغانستان...) قبل أن يشمل عقر الوطن والأمة (؟!) 3-وينعكس ذلك على مستوى وضع التحالفات مع القوميين واليساريين العرب وفي العالم، فبعد التحالف مع الناصرية في بداياتها... وحتى "المؤتمر القومي الإسلامي" سينتهي الأمر إلى اختيار الصدام العنيف بل والدموي معهما، ضدا على رهان "التكتل" ضد العدو الحقيقي والمشترك: الاستعمار. 4-وفي الموقف الاجتماعي، ومن ثم الإيديولوجي، فلقد انتقلت الحركات تدريجيا من الميل لتمثيل، ومن ثم التعبير عن الفئات والطبقات الكادحة والمستغلة، ومن ثم الحوار والتكامل مع الوعي الاشتراكي، كما كان حال سيد قطب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) ومصطفى السباعي (اشتراكية الإسلام) إلى التعبير والدفاع عن البورجوازية المتوسطة والكبرى (شركات توظيف الأموال مثلا). ومن ثم: 1-تحول شعار العدالة إلى الإحسان والعمل الخيري. و2-معاداة الاشتراكية والاشتراكيين. وذلك بنفس درجة معاداة الاستعمار لهما. وهي أيضا نقطة لقاء مشتركة بينهما. 5-سينعكس ذلك أيضا على مستوى مواقف الحركات تلك من القطاع العام (رأسمالية الدولة) ومعاداة من يرتبط به ويستفيد منه: أ-إدارات الدولة وبيروقراطياتها، خاصة منها العسكرية والأمنية. ب-الميزانيات والقطاعات المستفيدة مجتمعيا منه: مجانية التعليم والصحة.../ صناديق الضمان الاجتماعي والصحة ودعم أسعار المواد الغذائية والصحية... هذا التقاطع، بله التطابق مع إستراتيجية العولمة الليبرالية المتوحشة، والتي يقوم على فرضها البنكان الدوليان (حقيقة الأسعار أو تحريرها بما في ذلك قوة العمل-سيادة قيم السوق وقوانينه الربوية والاستغلالية...) هو ما يفسر من جهته أيضا، ذلك الالتقاء الموضوعي بين الحركات تلك وبين الرأسمالية العالمية، وذلك حول برنامج الخوصصة ودلالاته وعواقبه المعروفة. 6-وعلى مستوى المواقف من المختلف مذهبيا (الشيعة مثلا) أو دينيا (المسيحيون) أو جنسيا (المرأة) فإن التراجعات عن الحق في الاختلاف وعن المساواة وعن التسامح... فاضحة... مقارنة إلى اللحظة التأسيسية وما تلاها، حيث بلغ تسامح الإخوان درجة ترشيح مسيحي باسمهم للانتخابات التشريعية المصرية (؟!) 7-لقد أدت سلسلة الحوارات الفكرية والسياسية للحركة مع حلفائها القوميين والسياسيين.. إلى تبنيها التفسير والمضمون المدني للدولة الإسلامية.. بل وإلى صيغتها الديمقراطية كذلك (البورجوازية على كل حال)، غير أنهم في الممارسات انتهوا عمليا إلى: أ-الاندماج مع إستراتيجية الأطلسي الاستعمارية، وهي نقيض الديمقراطية وشرطها الوجودي (=الاستقلال الوطني والوحدة...) النموذج التركي. ب-أو الاندماج مع الاستبداد، بل والصهيونية المتأسلمة (قطر). ت-الاستئثار بالسلطة واحتكار مؤسساتها... عوض اعتماد قوانين الانتقال الديمقراطي التي تقتضي الحوار والتوافق والمشاركة... سبيلا نحو صناديق الانتخاب والتناوب والأغلبية... فقزموها بذلك إلى محض صناديق، واهتموا بالتمكين بديلا عن التأصيل الإسلامي للمفهوم (مصر). 8-وعلى مستوى الاجتهاد الذي انطلقت منه الحركة في جذورها السلفية، فلقد انتهى إلى جمود ونصية وانغلاق... وذلك على جميع المستويات العقدية والتشريعية والتعبدية... بجميع ذلك وبغيره، انتهى الرهان النضالي والتجديدي الإسلامي إلى: تأسلم، والمعارضة إلى اعتراض، والشعبية إلى شعبوية، ومقاومة الاستعمار، بما فيه الصهيوني، إلى مهادنته وأحيانا التطابق مع إستراتيجيته بل والتحالف التاكتيكي معه، ومن إصلاح المجتمع إلى تكفيره، ومن الوطنية إلى العدمية ومن الاجتهاد إلى المحافظة، وتحويل الأعداء إلى خصوم وحتى حلفاء والعكس... ومن التنظيم المركزي والعقلاني... إلى تنظيمات فوضوية وأحيانا إرهابية (؟!) إلى أي مصدر، يمكن إرجاع هذا النكوص للحركات الإسلامية عن شروطها التأسيسية ومقاصد روادها العظام، سواء خلال المرحلة الأولى السلفية (الأفغاني وعبده ورضا) أو الثانية السياسية (البنا وقطب والسباعي): أ-اجتماعيا: لقد كانت انطلاقاتها جميعا وطنية، إذن تشمل جميع الطبقات الوطنية في كتلة واحدة، وحول برنامج نهضوي وتحرري موحد، وذلك بقيادة نخبتها وفئاتها الصغرى المستضعفة. غير أن انقلابا قياديا حدث في المسار، لمصلحة الطبقة الوسطى والرأسمالية بشقيها الوطني أو المرتبط بالأسواق الخارجية، وبالتالي المصالح الرأسمالية العالمية. في المقابل، فإن فئات البورجوازية الصغرى والعاطلين... انتهوا أمام الهزائم المتلاحقة والتهميش والافتقار إلى مثقفين عضويين وإلى حزبهم... إلى اليأس والسقوط في البدائل الرأسمالية والرجعية... التي سيقوا إليها قصدا أو عفوا: الشعبوية والفوضوية... وحتى الإرهابية. ب-فكريا: غموض شعار "الإسلام هو الحل" وعموميته... الأمر الذي سمح بتحوله لاحقا وتدريجيا إلى دلالات ونتائج أخرى مغايرة: -الرأسمالية هي الحل(؟!) -الاستبداد والفساد هو العدو، مع أنهما فرع عن الاستعمار (=العدو الحقيقي) -إذن التحالف مع الاستعمار ضدا على "المستبدين الفاسدين" =إدارة الدولة وفي المقدمة منها الجيش والأمن وبيروقراطية القطاع العام (؟!) -الخلط بين الديمقراطية وقوانينها من جهة، ومرحلة "الانتقال" إليها من جهة أخرى، وذلك بحرق هذه، واستعجال ما يلزمه التأجيل (البرتغال احتاجت إلى سبع سنوات في انتقالها). -اختصار "الديمقراطية" نفسها في بعد إجرائي وحيد منها "الانتخابات" إذن الإقصاء عوض الإجماع، والاستئثار بديلا عن المشاركة.. -اعتماد وسائل غبر ملائمة للأهداف وللأخصام، السرية والعنف، بما فيه الدموي وحتى الإرهابي (سوريا): مانديلا حاور وأشرك دوكليرك، ولا مقارنة بينه مع جميع الحكام العرب. (نفس الأمر في إسبانيا والبرتغال والمغرب...). هذا مع أن حزب ونقابة وجيش.. منديلا كان أقوى بما لا يقاس مقارنة إلى القوى الإسلامية (؟!) -إن شرط الحرية أو الحريات، الفردية أو الجامعية (=الديمقراطية) هو حرية الأوطان أولا (=تحررها وتحريرها). حقوق الأوطان سابقة على حقوق الإنسان، وحقوق المواطن شرط للحقوق اللاحقة (الإنسان). ت-عالميا: لقد تمكنت رأسمالية المراكز الاستعمارية، من إلحاق الرأسماليات التابعة لها، وأغرت وأوهمت ثم وظفت المجتمعية منها (الإسلامية غالبا) ضدا على رأسمالية إدارة الدولة، وبذلك فجرت التناقضات الوطنية الداخلية والثانوية.. وجمدت التناقض الرئيسي مع الاستعمار، لمصلحة تأبيد وتعميق وتفاحش استغلاله، وخسر الرأسمال الوطني بشقيه الخاص والعام، واستنزفت ثروات وعرق الشعوب، في صراع فوضوي، عبثي وانتحاري بين الرأسماليتين الوطنيتين الإدارية-الدولتية والمجتمعية... نتيجة الطمع (لا الطموح) وزيف الوعي واللاعقلانية السياسية. -خلاصات واستنتاجات بهدف التذكير، وللمساهمة في وضع قواعد حياة وعمل لأجل المستقبل واستخلاصا من تجربة قاسية في عظم تضحياتها وضآلة مردودها... نؤكد: 1) إن المسلمين عموما، والعرب خصوصا، مستهدفون كجغرافيا (بشرية وطبيعية واقتصادية..) وكتراث ثقافي عريق، متنوع وغني، وذلك من قبل الرأسمالية الغربية منذ بدايات تأسيسها في شمال المتوسط (ق16) ثم توسعها وانتشارها الأمريكي، لا يُستثنى منهم طرف أو قسم دون آخر، إلا مؤقتا وكمرحلة انتقالية، وهم في ذلك لا يقبلون علاقة ندية ولا تحالفا.. بل فقط استعمارا واستتباعا ونهبا واستغلالا... عنصريا وتهميشيا.. بل وإباديا (نمط الهنود الحمر – البوسنة – الصومال - فلسطين). 2) إن الفقر والتهميش... لا يصنع ثورة... وطنية كانت أو ديمقراطية... إن الوعي والتأطير المدني(الحزبي والنقابي والإعلامي...) والتدرج والتراكم والتحالفات.. هو ما يسهم بتحقيقها.. أما الرهان على الانتظارية والعفوية والفوضوية... فهو خطأ قاتل. 3) إن الشعوب العربية جميعا تراكم الخبرة وتبلور برنامج الثورة من أجل التحرير والاستقلال والديمقراطية، غير أن القابلة "الأجنبية" في أغلبيتها... أجهضتها، حينما استعجلت الولادة، وأساءت الوسيلة، وأخطأت العدو.. ف"أخرج الشبل من عرينه قبل أن يستأسد" وعيا وخبرة وبرنامجا وتحالفات.. 4) في أية انتفاضة (وأحرى فوضى) فهي لابد لها من قيادة، وإذا هي لم تكن معلنة ومعروفة، فذلك لا يعني أنها غير موجودة (؟!) والغضب والإعلام وحدهما غير كافيين لإحداثها. ثمة قيادة سرية وأجنبية مع امتداد مدني داخلي لها... هو ما يفسر الأخطاء والانحراف والمتاه...الذي سيقت إليه الجماهير العربية في "ثوراتها" الموءودة. 5) إن الفوضى في الميدان، سبقتها ومهدت لها، فوضى في الأذهان وذلك خاصة بواسطة إعلام مغرض مدبر وموظف لذات الهدف، وذلك منذ عقد من الزمن وبواسطة صحفيين وفقهاء وأساتذة مأجورين عليه، بأضخم الأجور والتعويضات (حوالي أربع مئة جامعي) واستثمر لذلك تاريخهم أو قدراتهم الخطابية والبلاغية... 6) إن من لا إستراتيجية له، ينتهي حتما إلى الوقوع في خدمة إستراتيجية غيره، وقد يكون هذا الغير خصما أو حتى عدوا، وهو ما حصل بالضبط. الحركات الإسلامية المعاصرة توفقت تاكتيكيا، غير أنها أخفقت إستراتيجيا، الأمر الذي ورطها في انتهازية سياسية وتناقضات وارتباكات في الممارسة، وبالذات في تحديد العدو الرئيس من الخصم، والخصم من الحليف والحليف ممن يمكن تحييده... الخ وهذه هي "السياسة"، والممارسات خارجها تعني الفوضى، وهذا هو ما يحصل اليوم. 7) لا حركة سديدة دون نظر سديد، ووضوح في الأهداف والرؤية والمقاصد وتحديد دقيق للمبادئ، العفوية التجريبية والفوضى... في العمل السياسي النضالي.. هي بمثابة انتحار. إن الجماهير لا تحتاج لمن ينوب عنها في البذل والتضحية، هي في حاجة لمن يقود تحركها بصواب وسداد وذلك بأقل الخسائر وأكثر الأرباح، وهذه جدارة النخبة أو الحزب القائد. 8) الديمقراطية تشترط وجودا الوطنية و/أو القومية، ما يعني توفر الاستقلال والسيادة الوطنيين، هي إطارها الشارط والوعاء الذي بدون وجوده لا يتصور وجودها، هي في العصر الحديث مرحلة انتقالية إلزامية: 1-التطور غير المتكافئ للشعوب 2-التوسع الرأسمالي الاستعماري وذلك إلى حين انتفاء موجباتها. ينتج عن ذلك منطقا وواقعا، تصور إمكان أن تكون وطنيا، ولا تكون ديمقراطيا، في حين أن العكس مستحيل موضوعيا، إن العدمي لا يمكن أن يكون ديمقراطيا ولو توهم وهرب نحو أممية اشتراكية أو إسلامية... وهو ما يسمح اليوم مثلا بفهم هذا الالتقاء الموضوعي والواقعي، بين اليسار الفوضوي أو التروتسكي مثلا وإسلام الخلافة... وسقوطهما معا في أحضان العولمة الرأسمالية (؟!)، وذلك بمناطق (ج منطق) فاسدة ومقلوبة: عدو عدوى صديقي؟ /يستعملوننا ونستعملهم؟ /الاستبداد يعرقل الصراع ضدا على الاستعمار؟... الخ. 9) إن عدم حسم البعد الاجتماعي في الصراع الطبقي أو الوطني والعالمي... يعتبر عطبا في المنطلق. إن المستضعفين، ومن بينهم النساء خاصة، هم المؤهلون موضوعيا للنضال على تلك الواجهات جميعا، لا كمناضلين فقط، بل أساسا كبرنامج سياسي وكقيادة، والحال أن الوضع الحالي للحركات تلك، يختلف بل ويتناقض مع هذا المسعى. 10) إن الوعي، ومنه الوعي السياسي، هو سلاح يفترض ألا يكون مفلولا أو معطوبا في المعارك، هو كالإنارة في خوذة المنجمي، ليس هي ما يحفر، غير أن المنجمي بدونها قد يهوي بفأسه في فراغ، أو حتى الإجهاز على زميله في العمل. والوعي، لا حدود جغرافية له، إنه مرتبط بتقدم المعرفة والعلم، وسلفنا الصالح انتصر، لأنه عرف كيف يستفيد من التراث العلمي والفلسفي.. للشعوب المحيطة به والسابقة عليه في الحضارة، واشتغل بقمة فكر المرحلة "أرسطو"، والحال أن الإسلامية المعاصرة، وحتى بالمقارنة إلى الحديثة، تتخذ مواقف غاية في البؤس والرجعية والتخلف، وذلك من عموم ثمار الحداثة، وخاصة زبدتها المتمثلة في الاشتراكية ومنطقها الفلسفي وبرنامجها الاقتصادي – الاجتماعي والثقافي... 11) من منتوجات ذلك القاتلة، انغلاق مفهوم الهوية لدى الحركات تلك، إلى مستويات تتناقض مع منطلقاتهم الإسلامية نفسها، لقد انتصر الإسلام لبعده الإنساني والكوني، وفي نفس الوقت احترامه للخصوصيات الجغرافية.. فكلنا لآدم وآدم من تراب، والتقوى مقياس المفاضلة... الخ. إن "جذر الإنسان هو الإنسان" نفسه، والهوية الإسلامية كونية وإنسانية، أولا تكون، والهوية المغلقة، الانعزالية والاستعلائية-العنصرية... هي الانتحار الحضاري بعينه. 12) ويندرج في هذا الإطار، ما يتعرض له الإسلام المعاصر من كثافة في العمل على تهويده وليس فقط صهينته السياسية، لقد حمل معه تاريخيا كثيرا من الإسرائيليات، هي ما يمهد لهم ويشجعهم أكثر على التهويد، أخطر مظاهر ذلك: أ-التطرف في تسييس (=تحزيب في الحقيقة) الدين واستثماره في جميع أسواق المال والتجارة والسياسة... ب-اغتيال البعد الفطري – الأخلاقي... للدين، وخلطه مع التدين والإيديولوجيا الدينية والمؤسسات الدينية. ت-ترجيح وإبراز البعد الوثني والعنيف وحتى الدموي... (=يهوه)، على حساب صورة الغفور والرحمان الرحيم... رب العالمين، لا رب المسلمين وحدهم(؟!). 13) إنه إذا كانت "الحقيقة هي الكل "وإنه لا يمكن فهم الجزء بدونه (=الكل) خاصة ونحن في شرط وزمن العولمة الرأسمالية، فإنه لفهم شرطنا الخاص، يتطلب الأمر فهم شروطنا العامة والعالمية. وعلى وجه الاختصار، فإن الأزمة أو الأزمات الراهنة، هي في أصلها وجذورها، توجد في مراكز تلك الرأسمالية في الغرب، وأنها من أجل التخلص منها وتصريفها... تعمد إلى تصديرها نحو هوامشها، شعوب ودول الجنوب وفي المقدمة منهم: العرب، وذلك على جميع المستويات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية – الثقافية والأخلاقية... وهذا ما يسمى بالاستعمار، الذي تغيرت وسائله وحيله بين قديمه وجديده، غير أن جوهره الاستغلالي هو نفسه، وأداته الرئيسة "فرق تسد" هي نفسها، وهذه اليوم هي ما يسميه ب"الحرب الناعمة" أن يحارب الضحايا بعضهم بعضا، ويقتصر هو على الإعلام المغرض والتحريضي... وعلى التسليح... وبذلك يتخلص من أعداء بواسطة أعداء، لا اختلاف بينهم، سوى على تأويلات وأوهام إيديولوجية. 14) إن المرحلة التي تشرط واقع وتحرك دولنا ومجتمعاتنا.. هي مرحلة استكمال التحرر والتحرير الوطنيين، ومرحلة الإصلاحات وأهمها تحقيق الانتقال نحو الديمقراطية.. وهما ليستا ثورة ولا ديمقراطية، ولا نحتاج لتحقيقهما، إلى وسائلها (=الثورة). إن الذين حرضوا على التصعيد، وأحرى على العنف... حولوا الانتفاضات الشعبية (الإصلاحية والانتقالية بالضرورة) إلى فوضى عارمة، وبذلك منعوا الحوار والتوافق على الإصلاح وعلى الانتقال... ونفذوا بذلك مخططا رصد لهم ولا علاقة له بشروط المرحلة وأحرى بحاجيات شعوبنا. لقد خلطوا بين الدولة وإدارتها (سماها لهم الغرب: النظام) وبين الديمقراطية و"الانتقال الديمقراطي" وبين الإصلاح والثورة... الخ. 15) إن رأسمالية الدولة، في صيغة "القطاع العام" هي على أعطابها ومفاسدها (المدبرة من قبل الخارج أحيانا) أفضل بما لا يقاس من الخوصصة، وأحرى إذا كانت للأجنبي الغاشم والمبتز والأكثر فسادا والأخطر إفسادا. إن جدارة القيادة، لا تكمن في القدرة على تمييز الأفضل من الأسوء، ولا الأفضل من المفضول فهذا يستطيعه الجميع، بل المفاضلة عند الضرورة بين السيئ والأسوء، وهذا اليوم هو شرطنا، وهذه حالتنا المرحلية. 16) إن ما قد نلاحظه اليوم من خلافات، وحتى صراعات أحيانا بين الدول العربية والإسلامية من جهة، أو بين الحركات الإسلامية من جهة ثانية، هو في الغالب منه محض انعكاس لأزمات وتناقضات وصراعات الرأسمالية في مراكزها الأصلية، والتي تعالجها عن طريق تصديرها وتفجيرها خارج أوطانها، وذلك حتى لا تنفجر داخلها كما وقع لهم في حروبهم الأهلية أو حروب الحدود والتوسع الاستعمارية (الحربان العالميتان): أهم ذلك اليوم الصراع الأمريكي-الأوربي/وصراع التجمعين الصناعيين: المدني والعسكري في أمريكا... أما صراع السعودية وقطر/ وتركيا ومصر... أو الجماعات الإسلامية المسلحة... فإنهم جميعا ضحايا ومستخدمون بلا أجر في خدمة أطراف الصراع في الغرب الرأسمالي... 17) إن الوضع السني في هذا الإطار، هو أسوأ كثيرا، مقارنة بالأخوة الشيعة، لقد انتهت العلاقة إلى وضعية انقلابية، خرج فيها الشيعة، وذلك بسبب تأسيسهم للدولة المركزية العصرية، من حالات الازدواجية (السرية – التقية..) والانفعالية والعنف... لتدخل فيها أغلب الحركات الإسلامية التي تأخذ نفسها بالتأويل السني للإسلام.. الازدواجية (تركيا والإخوان..) والسرية والعنف وخلط الأولويات والتحالفات والمفاهيم (جميع حركات العنف التكفيري) . على الحركات الإسلامية أن تتأكد، أنها إذا لم تتخذ مواقف حازمة وصارمة ومبدئية، ومن غير تردد أو غموض.. من العنف، فإنها تزكيه وتشجع عليه وقد تنتهي إليه لا قدر الله، وبذلك تلغي نفسها بنفسها وتخرج من المجتمع ومن التاريخ وتمرق من الدين، كما تنبأ الرسول الكريم في الحديث الشريف. 18) إذا كانت العبرة بالمآل، فإن الوضع الحالي كارثي: أ-إدارات الدول التي "استوعبت" الانتفاضات.. تحقق لها ذلك بالمزيد من التنازلات والابتزاز... على حساب حقوق السيادة والاستقلال الوطنيين، ومن تم على حساب شعوبها ولمصلحة الاستعمار (الملَكيات جميعا). ب-التي راوحت بين الاستجابة للشارع وابتزاز الاستعمار، انتهت إلى المراوحة في المكان (تونس) أو بداية الاستجابة (مصر) التي ربما انتهت إدارتها إلى الأخذ بقاعدة "بيدي لا بيدي عمرو" (=الإخوان). وهذه حتى الآن حالة حكومة الببلاوي(؟!) ت-ويبقى الخراب، وعدم الاستقرار للآخرين: ليبيا، اليمن والعراق.. ممن لم يحسموا بعد طبيعة علاقتهم بالمستعمر، وطبعا للصامدين على الاستقلال والسيادة الوطنيين، بالتالي على الجيش والقطاع العام... (سوريا). ث-أما تركيا، فإن نهاية التحالف إلى صراع، سواء في الداخل (كولن وأردوغان) أو مع الخارج (أمريكا) سيحكم على "النموذج" بالفضيحة، سيتأكد أن "المعجزة" إياها، لم تكن سوى صناعة عابرة ومؤقتة، كما حصل سابقا لمهزلة "النمور" الآسيوية والأرجنتين. سادسا: خاتمة: في إطار وسياق الحوار المطلوب أن يستأنف صريحا وعميقا، نقول: 1-لقد اتضح اليوم، أن مفهوم وبرنامج "الانتقال نحو الديمقراطية"، أضحى في حاجة إلى شرط لا زب، إلا وهو التوافق المسبق والحواري حول "ميثاق" ما قبل دستوري، عقد اجتماعي مدني، يتم بين القوى السياسية الرئيسة في المجتمعات العربية، أما الانتخابات وحدها أو المجالس التأسيسية لوضع الدساتير.. فإنها لم تؤت أكلا، بل بالعكس. وذلك في غياب "ميثاق" يضبط الحدود ويرسم مضامين "الانتقال" وليس شكله وحسب، ويفترض لذلك أن يكون موضوع الحوار "القومي الإسلامي" المطلوب... هو هذا بالضبط، يجب أن يتم ذلك اليوم، في أية مرحلة للعلاقة، ما قبل أو خلال أو ما بعد.. الانتفاضات، متجاوزين بذلك حالات التعميم والغموض في المفاهيم والبرامج وأحرى المساومات الفكرية الضارة جدا، مادامت تنتج لاحقا وتشجع الصراعات السياسية (=الفوضوية عمليا) والحال أن المطلوب هو العكس: المساومة في السياسة، والصراع في الفكر والإيديولوجيا، وهو الأمر الذي أخفقنا فيه حتى الآن(؟!) 2-حاجة الحركة الإسلامية، الحيوية بل والمصرية، إلى استئناف فضائل سلفها، إلا وهو الاجتهاد، وذلك بما يعنيه من: أ-الإنصات إلى العقل وإلى العلم وإلى العصر... وما يتطلبه كل ذلك، من انعكاس على التشريع الفقهي وعلى القانون وعلى الحياة السياسية والعامة. ب-رفع الحرج عن الشعوب الإسلامية، وذلك بما يعنيه من حاجتها إلى الملاءمة الاجتهادية بين ضميرها الديني من جهة، وحاجيات الواقع ومتطلبات الحياة اليومية المتجددة... من جهة ثانية إذ "لا تجتمع أمتي على ضلال" المطلوب إذن الاستجابة لما تجمع عليه الشعوب.. وهذا هو جوهر ومعنى الاجتهاد في الفقه الديني. وهي أهم وظائف الفقيه المفتي.. 3-حاجة الحركات الإسلامية جميعا، إلى وقفة مراجعة للنقد والنقد الذاتي، خاصة لوعيها قبل ممارساتها وتنظيماتها.. وخاصة أيضا لقياداتها المسؤولة والتي لم تحاسب قط من قبل قواعدها... لقد تراكمت منها الأخطاء، وانتقلت وتصاعدت، مما هو تنظيمي ثم تاكتيكي ثم إستراتيجي... إلى أن طالت ما هو مبدئي.. أي إلى ما يفسر وجودها وانطلاقها وشعبيتها وتضحيات أعضائها، إنها المأساة حقا، أن ينتهي المسعى إلى نقيض مقاصده، وأن ينتهي الإسلام إلى التصالح، وحتى إلى خدمة أعدائه: الليبرالية المتوحشة والفوضى والعنف والاستعمار... منطق وفلسفة "الإخوان لا يعتذرون" كما عبر أحد المرشدين، منطق فاسد وانتحاري، الذي لا يتجدد ويصلح نفسه كل حين، ويتلاءم مع حاجيات الواقع وتطورات أحواله، ينتهي حتما إلى الهوامش وإلى الانعزال ثم إلى الموت البطيء.. الحاجة اليوم إلى وعي نقدي وإلى وعي تاريخي.. إلى وعي ديني مقاصدي جديد ومتجدد. و"يدنا منا، ولو كانت من جذام" شرط أن نتعاون على معالجتها وإبرائها. *-في الأصل، مشاركة في ندوة بالرباط، حول نفس المحور (دجنبر 2013)