تدخل أمي إلى غرفة الجلوس كعادتها، وبمحاولات شتى تطلب مني أن أكف عن دس وجهي في شاشة هاتفي الذكي؛ منذ أن غادر أبي هذه الدنيا وهي تريدني أن أشعرها بوجودي داخل البيت، تريد سماع صوتي والحديث معي، تريدني أن أحدثها عن الطقس، عن العمل، عن الأولاد، عن الطبخ، عن أي شيء. تطلعت إلي بوجه ممتقع، ثم أخذت مكانها بجواري؛ هي لا تدري أنني حين أكون منكسا رأسي أقلب نظري في شاشة الهاتف أكون بصدد كتابة نصوص أدبية ذات قيمة. نحيت الهاتف جانبا وجلست متسمرا أشاهد التلفزيون، عزائي الوحيد بعد الكتابة. ولأنني إنسان محب للتاريخ، وعاشق للنبش في صفحات الماضي، ضغطت على زر جهاز التحكم مقلبا عن قناة تبث برامج وثائقية، وإذا بفيلم يحكي عن حرب الريف يطلع على شاشة الجزيرة الوثائقية. ظلت أمي تحدق في الشاشة بتمعن شديد، فجأة تململت في مكانها بعدما تسللت إلى مخيلتها ذكريات وأحداث بعيدة، ثم أردفت بنبرة حزينة: آه لو تعلم يا بني عن أيام عصيبة قضيتها بجبال الريف حينما انتقلت للعيش بقبيلة بني ورياغل في بداية الستينيات من القرن الماضي... حينئذ لم أفهم قصدها، إلى أن شرحت لي بقليل من التفاصيل أنها زفت كعروس إلى قرية نائية معزولة عن العالم، تنعدم فيها شروط الحياة، وهي ابنة الرابعة عشرة من عمرها. كل ما تراه جبال موحشة تحاصرك من كل الجهات؛ لا ماء، لا كهرباء، لا تطبيب، ولا مسالك طرقية، والأدهى من ذلك أن السكان لا يتكلمون العربية. كانت طفلة لم يكتمل نموها بعد، صعد بها أبي إلى قمة الجبل خلال أول تعيين له كمدرس، ليبدأ مشوارا مهنيا صعبا من أعلى جبال وعرة تخترق قمم السحاب. تحكي أمي أن القرية كانت شبه مقفرة من الرجال. وجوه الساكنة شاحبة طوال الوقت، عيونهم يملؤها الخوف، يعيشون الانكسار والألم على وقع عصيان مدني مسلح قاده زعيمهم سلام أمزيان ضد سلطة الاستقلال الفتية، تم إخماده بوحشية مفرطة من لدن الرجل القوي أوفقير. معظم الشباب والرجال صعدوا إلى قمم جبال محيطة فارين بأرواحهم من ملاحقة القوات المسلحة؛ حتى إن جل آباء تلامذة أبي داخل القسم كانوا بين معتقل وطريد وقتيل. لم تستطع أمي التأقلم مع وضعها الجديد في الريف، لبثت تقاوم الحنين إلى أهلها وبلدتها طيلة سنتين، لكنها ضعفت واستسلمت في الأخير؛ نفذ خزان صبرها، فما كان منها إلا أن طرقت باب عمها الشيخ أحمد تستعطف تدخله لدى صديقه العلامة عبد القادر الساحلي من القصر الكبير، الذي كان بدوره يملك علاقات واسعة مع أشخاص نافذين في وزارة التعليم. ظهرت نتائج الحركة الانتقالية، زف عمي أحمد الخبر البهيج إلى والدتي. سينتقل أبي إلى بلدة سيدي اليماني القريبة من موطنه الأصل بقبيلة سوماتة العنيدة. أخيرا تنفست أمي الصعداء، فرحت فرحا بحجم السماء، أطلقت زغرودة جبلية ورقصت؛ عادت البسمة إلى محياها من جديد. بعد أن ذرفت دموعا غزيرة جاء الفرج، كادت تفقد عقلها من شدة البكاء الطويل، صار لسانها يلهج بعبارات الحمد والشكر على الدوام. أمضت سنتين تشتكي من قسوة الطبيعة، نقص في الخدمات، وضنك العيش وسط جبال الريف؛ وها قد حل اليسر بعد العسر. يستيقظ أبي في جوف الليل فيتوجه إلى فناء الدار، يحمل غلاية ماء ساخن، يستعد للوضوء لأداء صلاة الفجر، وإذا به يتلفت فجأة على صوت رخيم يصله من غرفة محاذية، ليجد أمي قد سبقته لصلاة الليل، رافعة يديها إلى السماء، تناجي ربها في خشوع؛ كانت تدعو بالخير والفلاح لعمها وصديقه العلامة الساحلي، فيما الدموع منهمرة على وجنتيها كسيل جارف...