في حلْقِ كثير من الشباب والشياب غصة مريرة من الحال الذي آل إليه ميزان المكافأة مقابل المجهود. في حين إن السواد الأعظم ممن جايلوا بزوغ فجر الأنتِرنت وما قبله عاشوا ظروفا اجتماعية أقسى وأشد، وجدَ بعضٌ مِمن جاؤوا إلى الدنيا بعدهم مسلكا مختصرا إلى الترف والرفاه عبر جسر البيع والشراء (أي شيء وكل شيء) في أسواق النت. الأولون جُبِلوا على قانونٍ جاف صارم يفْترِض منهم بَذلَ ما بين خمس عشرة وعشرين سنة من الكد والاختبار والتحصيل، لتحصيل راتبٍ ربما يُقرِّبهم من، أو يُؤمن لهم، شروطَ العيش الكريم؛ بَيد أن الأخيرين لم يحتاجوا إلى تكديس الفِلَل ورباعيات الدفع غيرَ بضعة شهور من التكوين والتجريب قبل أن تكتنِز مُحصلتهم الافتراضية بالملايين. أمام هذا الوضع المذهل، يحْسَبُ الأشاوس، كما سنُسمي الفئة الأولى، أن الفئة الثانية، أصحابَ القِرَبْ (من القِربة، أي الجَرَّة)، (يحسبون أن أندادهم) قد وقفوا على سر الحياة وأن كلمة الاحتياج قد تم التشطيب عليها من صفحات معجمهم المخملي. لكن، إن توقفتَ لِهُنيهة تتأملُ الصورتين جنبا إلى جنب، سيرتفع الحجاب وستُكْشَفُ أسرارٌ وحقائق أعجب من طول مسار الأشاوس الدراسي أو مِن عرض حساب أصحاب القِرب البنكي. لما استُضيفت عالمة الفيزياء الذرية، المغربية كوثر حفيظي، وهي مُساعدة مدير المختبر الأمريكي العملاق آرݣون (Argon) لتشتيت ما دون مكونات الذرات على إحدى البرامج الحوارية للشاب نجيب المختاري، وهو من هواة الترويج لشعبية العلوم، قالت كوثر كلمة أثيرة لا بد أن يضعها الأشاوس نُصب أعينهم طول الوقت. بشرَّت حفيظي بما يفيد التالي: رغم أن البعض يُمضي وقتا طويلا في ظروف صعبة، ورغم أن السُّبُلَ تضيق عليه أحيانا وتضغطه الحياة إلى الهامش أحيانا أخرى، ورغم عقبات أخرى أعتى من كل هذا، هنالك عدالة إلهية تشمل هؤلاء بلمسة دافئة تُنصِفُهم في آخر المطاف الأكاديمي ببلوغ غايتهم ما فتِئوا مؤمنين بأن جادة العلم والتعلم هي المسلك الوحيد إلى الخلاص. هذا في خضم تعدد الوِجهات وتَشَعُّبِ المشارب. يمكن أن يُضاف إلى كلامها أنه بعد كل ذلك الجد والتعب، يهتدي هؤلاء (نعني الأشاوس) إلى آفاق مُثيرةٍ تُبقِي جذوة الشغف مُتَّقِدة فيهم إلى أن يتركوا الأثر الحميد في كل من يحيط بهم من أسَر وزملاء وأصدقاء في حينه، أو في مَن يأتي بعد رحيلهم من طلبةٍ ومُهتمين ولو بمئات السنين. هذا بشرط أن يتوفقوا إلى حقل هوايتهم فيجعلونه مرتعا للتعلم وبيدرا للازدهار الأبدي. لا يجب إطلاقا أن يَظُن الأشاوس أن التعرض المستمر للمحاضرات الجامعية والنقاشات المُنيرة والأفكار المتضاربة، وأن القدرة على الاطلاع على الثقافات الأخرى بنظارات محايدة، وأن اكتساب مرونة التنقل بين نشوة الأعمال الأدبية وفك شفرات الأوراق العلمية، وأن تأويل الشعر وتهذيب الذوق الموسيقي والتدرج على أحد الفنون الأخرى في المدارس والكليات هي أمور بديهية تحدث للجميع. إنما هذه كلها، إلى جانب ورشات أخرى، هي ما يُنمي الذكاء بأنواعه، الأكاديمي والعاطفي والاجتماعي، وهي ما يطور القدرة على رسم رؤية متفردة للأمور؛ كما تُمَكن من التعرف على أدوات التفكير النقدي. هذا الأخير، وللأسف، يتم تجاهله عن قصد أو بدونه في المناهج الدراسية والجامعية، وما أحوجنا لحملات تنويه بأهمية هذه المهارة أولا، تتبعها ورشات نظرية وتطبيقية تُقَعِّد لبرمجة الفكر الناقد (وليس المنتقد) في منهج تفكير تلامذتنا وطلابنا. عودة إلى أمرنا، فلِلمُرور بالمرحلة الثانوية ومن بعدها الجامعية تأثيراتٌ راسخة في تشكيل الشخصية القوية كفرد، وفي السمو بالفكر والذوق العام للناس كجماعات. قد يتساءل البعض لماذا يعود أصحاب القِرب إلى طلب العلم ولو بعد حين؟ ولماذا يقومون بعمل الخير لما يكثر بين يديهم الخير؟ ربما هناك أكثر من جواب على هذه المسألة التي يمكن أن تصنف كظاهرة. أول الأجوبة من طبيعةٍ ذهنية ونفسية، شئنا أم أبينا، أدمغتنا، مُبرمجة على التعرض للمعلومات بطريقة منظمة، عدا ذلك تتولى هي تنظيمها حسب أنواعٍ تُحدِّدها هي بنفسها في إطار ما يسمى بعملية التصنيف (Categorization). لهذا، يعود الكثير ممن اختصروا الطريق نحو المال والشهرة إلى رحاب الكلية طلبا للمعرفة في أقرب وقت؛ لأنه يعسر على بعضهم الوصول إلى فهمٍ واضح لحالة نجاحه ماليا، ولا يدري حقا كيف كان قد صعد نجمه في سماء الپايپال (PayPal) أو أفق الشهرة، دون تخطيط مسبق ولا معرفة راسخة. يرجِع هؤلاء إلى التعلم كوسيلة لإعادة تنظيم أفكارهم وبلورة فهم نظري أدق لما حصل معهم، ومن ثم إنجاز خطط عملية لما سيُقْدمون عليه لاحقا. أما شق الجواب الثاني، وهو من جنس اجتماعي، فهو غالبا ما يُحيل إلى القيمة الرمزية التي تؤشر عليها الشهادة المُذَيِّلة للعملية التعليمية في حد ذاتها. من جهة، عددٌ غير يسيٍر ممن لم يحصلوا على هذه الوثيقة الرسمية لا يستسيغ هذا الحرمان الرمزي من طرف مجتمعه رغم سنوات الجهد التي قضاها في التكسب. صحيح أن أسواق التشغيل الحديثة تتوجه الآن نحو جذب ذوي المهارات على حساب أصحاب الشهادات، لكن أولي الألباب، من جهة أخرى، هم من جمعوا المعرفة والمهارة وتوفيق التوجيه في خلطة نجاح واحدة. من المعقول أن يسعى الإنسان إلى تحسين نمط عيشه والبحث في سبل العيش الكريم، ولِم لا التردد على أبجديات الترفيه من حين لآخر. لكن السقطة هي أن يجعل من دماغه قِربة صماء تقبل المعلومات المرتبطة بميدان العمل فقط، وتَرُد كل ما دونها. على سبيل المثال، يزخر الويب المغربي حاليا بكثير من فيديوهات التحفيز على الاشتغال الحر وريادة الأعمال، وهذا توجه جيد لمن يملك حُلُما وحِلما. لكن، وفي معظم الأحيان، حين يُعَرج الشباب من أصحاب برامج البودكاست هذه أو ضيوفهم إلى مواضيع بسيطة في الأدب او الدين أو العلوم أو تدبير العلاقات الأسرية أو غير ذلك، يظهر مباشرة وبشكل مفزع الفراغُ الشديد في جعبة هؤلاء المعرفية، وتطفو بدون تأخير الضحالةُ الكبيرة لِلَياقاتهم المنهجية، كما تلوحُ في الحين السنواتُ الضوئية التي تفصلهم عن آخر ورشة دراسية أو كتبٍ علمية او أدبية أو حتى برامج تثقيفية. هذا دون التطرق إلى مهاراتهم اللغوية خارج اللسان الأم (الأمازيغية أو الدارجة المغربية)، فلا يبدو أن أغلبهم يتحدث أو يكتب بأيةِ لغةٍ أخرى، بما فيها العربية؛ فلا نُحدِّثْ بهم من لا يحفظ قصار السور القرآنية! أما في قضية فعل الخير من طرف أصحاب القرب (وهو أيضا فعلٌ جيد لوْ صَلُحت النية!)، فمرده إلى ما يصدر عن تعاظم للمال في جرتهم البنكية. على الأرجح هذا أمر مرتبطٌ إلى حد كبير بالبحث عن معنى الحياة. فلما يصل الإنسان إلى درجةٍ اجتماعية يقدر منها أن يُلبي كل نداءات الطبيعة في داخله ويدخل في طَوْعِهِ فعلُ كل ما يريد من سياحة عابرة للقارات وتمرغٍ في البيوت الواسعة وجنونٍ في السيارات المُعَضَّلة وبذخ في الفنادق الفخمة، يبقى رغم كل ذلك شيء في النفس لا يُطفِئُه كل ما سبق من لذات مادية فانية. يبقى في قعر الذات ظمأٌ شديدٌ كذلك الذي يقودك للسعي وراء كأس من ماءٍ ولو بعد وليمة سمينة بها كل ما لذ من الأكل وما حلى من الشراب. لو بقي الإنسان حبيس اللذة المحسوسة، لا محالة يبلغُ خطا رفيعا يفقد بعدَهُ حلاوة التلذذ ولا يتذوق أي شيء جديد مهما كان مدهشا وبديعا. في مرحلة متأخرة بعده يدخل الإنسانَ شيءٌ من عدم الشعور بأي نشوة كيفما كانت، ويفقد الرغبة في كل شيء، فتغشو بصرَهُ ظُلمَةُ الكآبة، ويميل للتفرد، فيتوارى عن الأنظار. وأغلبنا يسمع مِراراً أخبارا غير سارة عن مَن بلغوا مرحلة متقدمة من هذه الحالة النفسية اللعينة. لهذا، فمن الممكن أن تُسهِم مساعدةُ الغير وخدمةُ المحتاج وتقديمُ يد العون لشبابٍ ينشُدُ تكوينا أو منحة أو توجيها (تسهم) في رَيِّ ذلك العطش الدفين في كنه بني وبنات آدم. وحدها خدمة الآخرين تسمو بالإنسان إلى درجات عُلا، ولذلك ليس من الصدفة أن التراث العربي يبوئ خادم القومِ مقامَ سيادتِهم. الرسالة الإنسانية تأبى إلا أن تفرض نفسها على أمين سرها. وجب اعتبار من يحبون عملهم في عصرنا هذا محظوظين جدا. أولا لأن إيجابيتهم دائما ما تُلهم زملاءهم بنظير منقطع؛ فهم يؤمنون بالرسالة الشمولية التي أودِعوها وبِسَعْيِهم الحثيث إلى خدمة الإنسانية جمعاء ولو بإزالة الأذى عن قارعة الطريق. صِدقُ هؤلاء وإنتاجيتهم وذكاؤهم غالبا ما يقودهم إلى عيشٍ هنيء وقلب مطمئن وقِسْط في العلاقات ورفعة في الفكر والعلم والذوق. بعض أصحاب القِرب عادة يصلون هذه المرحلة متأخرين جدا، ومنهم من لا يسمع عنها أبدا، فيمضي غارقا في ملذاته اللامتناهية بحثا عما يقتل نار ذلك العطش الآني، فلا يستيقظ يوما إلا والحياة تمر مختصرة أمام ناظريه على حين غرة. حقا بُورِكَتْ خُطا من جَمع جاها ورسالة وتواضعا.