أتساءل باستغراب، كما تتساءل الشغيلة المغربية المغبونة المحرومة عن وضعية النقابة في بلادنا، وهل أصبح بعضها يعيش في أبراج عاجية، وغرف مخملية، وهي التي يفترض فيها أن تحس قبل غيرها بحرقة المأجورين، وآلام الكادحين. هذه النقابات التي لا يستطيع أحد أن ينكر الأدوار الطلائعية التي لعبتها عبر العقود الماضية، كما أنه ليس بمستطاع أي كان التنكر دورها، أو يطمس مساهماتها العظيمة لصالح الجماهير العمالية. وكيف غيرت اليوم جلدها وهمشت ما أرادت تهميشه، وغيبت ما طاب لها أن تغيبه أو تقبره؟ ألكي لا تزاحم في ميدان تعددت فيه المطالب؟؟. فوصفت احتجاجات الطبقة المغبونة، بكل الأوصاف والمزايدات النقابية ،المفتقرة للجدية والمسؤولية، والمسيئة لعمل النقابي ومصلحة العمال.. "" إن الحديث عن المطالب المشروعة للطبقة العاملة المتضررة هو مجرد عود على بدء. فقد سال من أجله مداد كثير.. ولكن الجرح غائر والظلم أكبر من كل كلام، والاحساس به يتعمق أكثر عندما تتنكر بعض الجهات النقابية لشريحة عريضة وواسعة من المتنقبين، والتي ما تخلت قط عن نداءات هذة النقابات التي خدلتها اليوم وضربت بشرعية حقوقها ومطالبها عرض الحائط، في الوقت الذي كان من المفروض أن تكون هي الراعي الأمين، والحامي المخلص لمصالح المغلوبين على أمرهم ضحايا السياسات الارتجالية، وأول من يهب لمناصرة الكادحين من أبناء الوطن المتفانين في خدمته مند عقود رغم الإجحاف والإهمال وهزالة الراتب. وحين أحس المتضررون، بأن حماة الأمس الذين يقول الله تعالى في حقهم ( كَذَلِكَ كُنتُم مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ). أنهم قلبوا لهم ظهر المجن وتخلوا عن نصرتهم أو كادوا- بعد أن ارتقوا على أكتافهم- وشمروا عن سواعدهم وقرروا تنظيم الذات وإثباتها، باستعمال حقهم في الاضراب، كأداة للدفاع عن الحق الضائع. يوصفون يومئذ بأنهم تمادوا في تصرفاتهم وألحقوا المزيد من الخسارة باقتصاد البلاد.. لقد صدق الشاعر حين قال : أمن قام يشكوا بثه فهو مزعج ومن قال يبغي حقه فهو مجرم. إن التاريخ شاهد لاينسى، ولو تناسى المتناسون أن رجال التعليم رغم اضراباتها المتكررة، قد استجابت لنداء المغفور له الحسن الثاني وارتضت الزيادة في ساعات العمل تطوعا دون تعويض من أجل تنمية وتطوير مؤهلات وكفاءات فلذات أكبادنا ( التلاميذ(. إن الكثير من تصريحات واتهامات القادة الجدد، تتسم بالعبثية ولا تستند إلى ثوابت مرجعية، ولا حتى إلى توازنات موضوعية. فالوقوف الآن- وأضع خطا بارزا وعريضا تحت الآن- في صف الحكومة ليس لحماية العامل كما يدعون، فهو بالنسبة لهم ليس إلا (درعا) يتحصنون وراءه لإحراج وتشويه صورة المخالفين في الرأي، وإن كانوا على صواب، لخروجهم عن طوعهم، وانفلاتهم من تراتبيتهم الجامدة. إنه تلاعب بأنبل عواطف الإنسان وأنقاها، بالشحن والتهييج والترويج للمقاربات الزائفة والطروحات الباهتة المفضوحة، ومحاولات فاشلة لإخفاء ما يعرفه الوضع النقابي من تحولات يطبعها التشرذم وحرب المواقع والنظرة الحزبية الضيقة بمزايداتها وحساباتها التي لاتخدم قضايا الشغيلة التي كابدت كل أنواع الغبن والظلم والحيف والإحباط والتذمر ولازالت تكابد أمام أعين النقابيين الجدد، ولازالت ملفاتهم تعاني لحد الآن كل أنواع التهميش والإقصاء واللامبالاة. فأمام فداحة وخطورة الأوضاع النقابية، سواء على مستوى الذات وما تعانيه هذه النقابات من مشاكل داخلية لاديموقراطية تواطؤية، أو على مستوى التعامل مع الطرف الثاني ( الطبقة العاملة المضربة) وتقزيم حقوقها إلى أدنى درجة، ما أوصل الأغلبية العظمى إلى مصارعة اليأس والموت في ظروف اجتماعية واقتصادية متردية إلى حدود لم تكن ممكنة لولا التواطؤات الفاضحة المفضوحة التي دفعت بها – وهو من كامل حقها ويضمنه الدستور– للجوء إلى الإضراب المسؤول الواعي القادر على المشاركة وإقتراح الحلول والعمل على تنفيذها، بعيدا عن الوعود الخداعة المعطرة بالأكاذيب الجميلة. إن ما يدمي القلب ويعصر الفؤاد هو تحيز وإنبراء الجهات التي كانت إلى الأمس القريب تعتبر نفسها مستقلة وسكنت قلوب العمال – نظرا لمصداقيتها - فإذا بها تخرج عليهم بوجهها الحقيقي المفعم بالكثير من التحيزات الذاتوية القمعية الأشد غلوا وتطرفا في نفي حرية الآخر، ورفض حقه في التفكير والقول والسلوك والاضراب، وفرض نمط معين من السلوك النقابي على البلاد والعباد، على أنه المنظورالنقابي الوحيد الأوحد الذي لا شريك له في حل كل مشاكل المقهورين واسعادهم، وغيره الضلال والغي والكفر المبين؛ مؤلبين عموم المواطنين ضد كل من لم يفكر بعقلهم، ويتحرك خارج قناعاتهم، ولم يلبس لبوسهم، بدعوى سعيه إلى هدم الامة وإفسادها، مستعملين لتلك الغاية كل قواميس المس بالكرامة ناسين مقالة الشاعر: لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن. إنه وضع قائم يستمد قواه وقواعده من ظروف تتجاوز المتحيزين والمتواطئين، مهما كانت منزلتهم وقوتهم، فهو كائن وموجود ولا يمكن التراجع عنه، لإن التغيير الذي عصف بالبلاد من أجل التنوير والتطوير والتجديد والحداثة في كل المجالات بما نشر من القيم والقناعات الفكرية والخلقية المساعدة على نبذ الخوف من هيبة المخزن المبالغ فيها، وسيطرة الهيآت السياسية والنقابية الممخزنة. لقد فتح هذا التغيير الباب على مصراعيه أمام المجتمع –الذي كان إلى حين قريب مجرد مطية طيعة لأغراض شخصية صرفة- لاختراق الصمت المفروض، والهيمنة المسلطة، والتهميش المقدر، وإلغاء الخطوط الحمراء المصطنعة التي تكشف مستور الزعماء الكبار ( ما كبير غير الله) وتهتك حجبهم المفتعلة، وتسقط الأقنعة عن الوجوه البشعة المتربصة بقيم الخير والديمقراطية. ؛ فلا تَنْسَواْ أن إرادة الجماهير لا تقهر بكتاب أو حتى بمجلدات بيضاء أو خضراء وحتى مزركشة، و اعلموا أن من عاش للناس عاش كبيرا ومات كبيرا، ومن عاش لنفسه عاش صغيرا ومات حقيرا .