قراءة في مفهوم السلطة من خلال كتاب: الشيخ والمريد. لعبد الله حمودي. "" دراسة لحالة المغرب. تمهيد: ينطلق عبد الله حمودي في دراسته الأنثروبولوجية: الشيخ والمريد، من تساؤل عميق هو كالتالي: كيف يمكن تفسير ظاهرة السلطة في مجتمعنا ؟ للجواب عن هذا السؤال خصص الباحث للمغرب حيزا مهما من دراسته: فصل 1 و2 و3. وقد حصر الظاهرة السلطوية من خلال مقاربتين أساسيتين، وعمل على التفريق بينهما؛ وهما: - المقاربة الرسمية: وهي المقاربة السياسية التي يتداولها محللي السياسة في المغرب. - المقاربة الثقافية: وهي ما يصطلح عليه الباحث بالخطاطة الثقافية؛ ويجعل منها المرجع الأساسي لفهم ظاهرة السلطة. فكيف تناول هاتين المقاربتين؟ أولا: المقاربة السياسية. 1.طرق ممارسة السلطة: تتمثل هذه الإشكالية فيما يلي : البيعة، الشريفية، التحكيم. وسنحاول أن نتعرض لهذه الأشكال الثلاثة على ضوء ما يناقشه الباحث في كتابه. أ. البيعة: (1) يلجأ أنصار المقاربة السياسية أثناء تبريرهم للشكل الذي تمارس بها السلطة في المغرب إلى فرضية وجود علاقة مباشرة بين السلطان و الرعية، تقوم على رباط مقدس بينهما. إنها علاقة البيعة التي تؤسس للشرعية الدينية للسلطة. يناقش الباحث هذه النظرية على ضوء التساؤل التالي: إذا كانت البيعة (2) مصدر الشرعية، فهل هي مبنية على الإرادة الحرة للمواطن، أم هي فقط مجموعة من القرارات التي تنبني على التأويل السياسي لنظرية البيعة الشرعية؟ تعتمد هذه المقاربة على مجموعة من الحجج، وهي بمثابة حجج يمكن تأويلها على أنها ردود وإجابات على التساؤل المطروح: § يعبر عن البيعة من خلال احتفال تقديم البيعة، والذي تقيمه الأمة ممثلة في الفقهاء(العلماء) والولاة. § إن البيعة هي السند الشرعي لمن يريد السلطة السياسية. § يحصل دائما إجماع في حفل تقديم البيعة. § إن السلطان يتعالى على كل الفروق والاختلافات والعصبيات والأيديولوجيات، الشيء الذي يجعله مرشحا دائما للظفر بالبيعة والإجماع. تلخص إذن هذه الحجج كل التبريرات الأخرى التي تفسر وجود علاقة مباشرة بين الراعي والرعية. وتشكل الأساس المنيع للسلطة؛ كما تستلهم ضرورة وجود قائد وزعيم للأمة. فهل تستوفي إذن البيعة شرطها الأساسي الذي هو الإرادة الحرة؟ يلاحظ أن تلك الحجج كلها تصب في إقرار وجود البيعة وحصولها ؛ إلا أنها لاتقر بلزوم هذه الأخيرة لشرطها الضروري(الإرادة). ففي الوقت الذي تتأسس فيه البيعة على إرادة الأفراد ، يفرغها طريقة تقديمها الشكلي من هذا المضمون. فإلى أي حد يمكن القول أن الذين يقدمون البيعة والولاء يمثلون فعلا إرادة الأفراد؟ يجيب عبد الله حمودي بأن البيعة كما يعبر عنها هنا لا تشكل إدراك كل الجماهير القروية والحضرية على السواء، الشيء الذي يجعلها غير ذات أهمية كبيرة في تبرير ظاهرة السلطة، وكذا تبرير تقبل الجميع لها. يتضح على ضوء هذه النتيجة، أن البيعة هي مجرد آلية من بين الآليات الأخرى التي تغذي السلطة. لذلك يمكن القول أن السلطة متجدرة في الثقافة المغربية، وهذا ما يتطلب حفرا ونبشا من أجل الوصول إلى الأسباب المتحكمة فيها. ب. الشريفية: (3) تشكل الشريفية أو اللدنية، كما يسميها الباحث، العنصر الأكثر أهمية و حضورا في الثقافة المغربية. وقد كانت الزوايا والأولياء أكثر استئثارا بهذه الشريفية. فنافسوا من خلالها السلاطين من أجل الاستحواذ على وجدان الشعب. ويسجل المؤرخون على سبيل المثال تنافسا قويا بين الزاوية الكتانية وبين السلطان مولاي عبد الحفيض؛ حيث كان رهانه الحصول على السلطة السياسية مرورا بكسب رمز الشريفية كقيمة رمزية ودينية عظيمة. غير أن المواجهة انتهت في النهاية بقتل الزعيم الكتاني سنة 1909. (4) تكمن خطورة الشريفية في تأثيرها على وجدان الناس عبر امتلاك عقولهم وقلوبهم باسم قداسة و شريفية مكتسبتين عبر مجاهدات تربوية وروحية؛ أو عبر خوارق وكراميات غامضة، أو بواسطة نسب شريفي. كل هذا يعني أن الشريفية عنصر ضروري وأساسي لممارسة السلطة؛ وهذا ما يجعل الباحث يوليها اهتماما زائدا أثناء تحليله لبنية السلطة الثقافية. ج. التحكيم.(5) تأتي نظرية التحكيم لتأكيد العلاقة المباشرة بين السلطان والشعب. فبمقتضى التحكيم تسمو شخصية السلطان على كل النزعات والخلافات البينية التي تقع بين الأحزاب و التيارات ..يقول عبد الله حمودي:"تستعصي صورة السلطان الحكم على التحليل مقارنة بأساسي السلطة السابقين: البيعة و الشريفية. ذلك أنها ملتبسة إلى حد كبير. فمن جهة تستمد هذه الصورة وزنها من أيديولوجيا قديمة وراسخة؛ ومن جهة أخرى تجد هذه الصورة تبريرا في ممارسات قديمة وجديدة معمول بها".(6) لقد ظل خطاب السلطة في العقود الأخيرة يروج لنظرية التحكيم الملكي، وذلك تبريرا لمقولة: الملك يسموا على كل الانتماءات الضيقة. وقد كانت استفادة السلطة من نظرية التحكيم استفادة عظيمة؛ حيث جعلت الملك محورا ومركزا لا غنى عنه ، خاصة أثناء الصراعات والخلافات التي تنشب بين الأفراد والجماعات الحزبية. لكن ألا يكرس التحكيم توجهات و اختيارات دار المخزن؟ يلاحظ البعض أن التحكيم بالفعل ما هو إلا تعبير عن مصالح و اختيارات النظام الشيء الذي يؤدي إلى تهافت موضوعية التحكيم؛ وهذا ما يجعل حياد التحكيم فاقد لكل اعتبار. نخلص من خلال ما سبق ذكره إلى مايلي: § إن البيعة والشريفية تشكلان آليتان لممارسة السلطة فتساعد الباحث في رصد ظاهرة السلطة؛ لكن سرعان ما يظهر حدودهما في رفع الغشاوة عن كنه الظاهرة. § إن البيعة قاعدة تفتقد أثناء ممارستها إلى جوهرها الذي هو الإرادة. § إن الشريفية مكتسبة وليست قاعدة، فبقدر ما تثير جاذبية معينة وقدسية بقدر ما لا تستطيع الصمود تجاه شريفية أخرى. § إن التحكيم، كما يقول الباحث، تبدو في التحليل كتصور خاص وليس كمعطى. وبهذا المعنى يمكن أن تساهم في انسجام النظام الاجتماعي والسياسي، لكن ما أن تجد الفوارق والتناقضات فرصة للظهور، حتى يظهر قصورها. إنها لا تعدو أن تكون نموذجا من بين النماذج الأخرى للتسلط. يتضح مما سبق، أن ظاهرة السلطة كما تمارس في الواقع، تستعصي على التفسير السياسي ؛ حيث إن الازدواجية التي تتأرجح من خلالها: الاستبداد و الاستسلام ، يجعلها ظاهرة مفارقة. ولهذا يلجأ الباحث إلى المقاربة الثقافية. ثانيا: المقاربة الثقافية. تمثل هذه المقاربة الخطاطة الثقافية للسلطة. وتستغرق فصلين كاملين (ف 1 وف 2)، بالإضافة إلى جزء يسير من الفصل الأول. ويبدأ الباحث هذه المقاربة بما يسميه بنظام الأعيان؛ حيث يؤكد من خلاله على النتيجة التالية: - تكرس السلطوية عبر العلاقات الشخصية التي تخضع لثلاثية الهيبة و الخدمة و التقرب. 1.نظام الأعيان وإعادة تكريس السلطة بواسطة العلاقة الشخصية: يعتبر عبد الله حمودي نظام الأعيان نموذجا ثقافيا جديرا بالدراسة والبحث السوسيولوجي. فهو يعمل على غرس السلطة محليا وذلك بواسطة العلاقات التي ينسجها العون مع محيطه. ويسعى العون في خضم حياته اليومية إلى المحافظة على طابع الحياة الاجتماعية السائدة، وخاصة تلك التي تنعش السلطوية. إنه يعطي للتغيير طابعا بطيئا، محاولا المحافظة على استمرار العلاقات القائمة؛ فهو يأخذ الهبات من السلطة المركزية، ويمارسها محليا عبر العلاقات الشخصية مع الناس. يحب القديم ويرتاح له ويكره الجديد ويستهجنه. يحتفل بالمواسم السنوية، ويقدم فيها الهبات للأولياء والأضرحة. إن الأعيان لا يتصرفون بصفتهم طبقة اجتماعية موحدة الأهداف، لكنهم يعملون من حيث لا يشعرون على تكريس السلطة محليا. إنهم خارج الأيديولوجيات النخبوية السائدة، ويقتصر انتمائهم على القبيلة والعصبية. يتحركون بشكل نفعي ويؤيدون الوضع القائم، لأنه يمدهم بالاستمرارية. فيغضبون منه إذا لم يكن ينعشهم. لا ينظمون أية حركة اجتماعية، في حين يعملون على محاربة كل حركة أخرى تريد الانفلات من النسق العام. إنهم ينزعجون من الإصلاح والتجديد. خلاصة الكلام؛ يشكل الأعيان نموذجا ثقافيا يمثل القاعدة الخلفية للاستقرار وترسيخ السلطوية؛ ولذلك لا يمكن فهم ظاهرة السلطة دون دراسة بنياتها الثقافية والاجتماعية. ويقضي ذلك بضرورة تجاوز المفهوم الضيق للثقافة، إلى المفهوم الواسع الذي يستوعب كل الأفكار والمثل اليومية المعاشة. يقول حمودي:"إن السلوكات اليومية التي يظهر من خلالها الإنسان هي التي تدل على انتمائه إلى هوية قد لا تستحضر بالضرورة أسسها الفلسفية كاملة.(9) إن الأعيان نموذج ثقافي يتمثل السلطة المركزية، فيمارسها محليا. فبقدر ما يأخذون الهبة من المركز، وينصاعون لقهرها؛ يعيدون إنتاج ذلك محليا. إنها جدلية الخضوع والقهر، التي تصاحب كل أشكال ومظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية. 2.ثلاثية الهبة والخدمة والتقرب.(10) تعتبر الخدمة الشخصية للسلطان، مبدءا أساسيا لنيل أفضاله. وبما أن الأشخاص غالبا ما يبحثون عن أقصى درجات التقرب، فإن الخدمة بالنسبة إليهم خير وسيلة إلى ذلك. وبهذا الشكل تصبح الخدمة مصدرا للتقرب إلى المركز (السلطة). ويصبح التقرب مصدرا لكسب الحظوة والهبة. إنه ينطوي على أخلاق التزلف والتملق، فيتناقض ومبادئ الأخلاق التي تحث على الجدارة والاستقامة مقابل الأجر. فإذا كان العمل تعاقدا بين الطرفين، فإن الهبة تعمل على تفريغه من هذا المحتوى. إن الخدمة بهذا المعنى إذن نشاط مقرون بالطاعة العمياء، والتملق إلى المهيب. إذن؛ تقترن الخدمة بالهبة، فيحصل تقرب إلى المركز (السلطة)(11). يحصل ذلك كله خارج أي علاقة تعاقدية واضحة بين الطرفين. وتعمل هذه العلاقة على استتباع دائم للخدام نحو المركز. إنه كما لو كانت أخلاق الخدمة والهبة والتقرب خارج أي قانون مقعد وشفاف. تعمل الهبة كذلك على رعاية جشع الخدام والمتملقين، وتفتح شهيتهم للمزيد من الهبات و الأفضال؛ حتى ولو كان ذلك على حساب القوانين التعاقدية الواضحة. إلى جانب كل ما قيل؛ تعتبر المراسيم والاحتفالات التي تقام لتقديس السلطة، مناسبة تتحقق معها قيم الهبة و الخدمة والتقرب. إنها تجسد الصورة الكاملة للقطب الروحي المقدس (السلطة). ففي هذه الاحتفالات ترسم اللوحة المختزلة لقداسة السلطة. إنها طقس السلطة في أسمى تجلياتها. فأثناء الحفل الذي يقام للسلطان، تأتي الجماهير لتقديم الهدايا والخدمة؛ وتحظى في المقابل بالهبة والبركة. وعند حضور القطب ، يعمل الجميع على التخلي عن الأنفة وربطة الجأش وعدم إظهار رجولة مفرطة. تختزل هذه اللوحة في حقيقتها ذاك الخضوع والخشوع للسلطة؛ فأثناء حضور السلطان يعمل الكل على الامتثال. ويمتد هذا الامتثال للسلطة ليشمل الأسرة، حيث حضور الأب، والمدرسة أثناء حضور المعلم المهيب؛ وكذا الحزب حين حضور زعيمه... إنها الخطاطة التي تسري في الحياة السياسية والاجتماعية والتربوية. فكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة الثقافية المعقدة (السلطة)؟ ثالثا: ثنائية الشيخ والمريد.(12) نصدر هذه الخلاصة بالملاحظتين التاليتين: - يقتصر الباحث في بحثه في التاريخ الثقافي للظاهرة السلطوية على القرن 19م. - يقتصر الباحث على ذكر سيرة رجل واحد، تلك التي جاء بها المختار السوسي عن الشيخ علي الدرقاوي، أحد شيوخ الزاوية الدرقاوية. فحسب هذه الترجمة ( سيرة علي الدرقاوي )، تبدأ مرحلة الزهد في البداية بالتخلي عن كل مظاهر الحياة المادية، حتى يصير المريد زاهدا ثم وليا. ولحصول ذلك لابد له من المرور بمرحلة المجاهدة النفسية والتربوية. وتنقسم مرحلة التربية بواسطة الشيخ إلى مرحلتين: o مرحلة التأهيل: تبدأ بقطع الصلة بالوالدين، ويترجم ذلك عمليا بالتخلي عن كل القيم الدنيوية.(13) o مرحلة التلقين: إذا كانت مرحلة التأهيل بمثابة عملية نفي للفضاءات والأمكنة والأزمنة الدنيوية فإن مرحلة التلقين يتم عبرها تخريب كل قوى النفس والشهوات الغرائزية؛ فتسهل السيطرة والتحكم في الذات. إنها أساس المجاهدة التربوية والروحية، وعبرها يرث المريد إرث وسر شيخه من جهة ولايته؛ ومن جهة أخرى يعيد إنتاج نمط حياة الشيخ وسلوكه إزاء نفسه والآخرين. إن المرور من مرحلة التأهيل إلى مرحلة التلقين بمثابة محطة أساسية في أدبيات الزوايا. فعبر هذا المرور يسلم المريد إرادته لشيخه لكي يرث سره. وهكذا يرث المريد سر شيخه، فيبدأ في إعادة تكرار نموذج هذا الشيخ: سلوكه، سلطته..المهم أنه شيخ جديد يعيد نفس الدور القديم.(14) وهكذا تعمل ثنائية الشيخ والمريد على تكريس السلطوية، والحفاظ على نسقها عبر عملية إعادة إنتاج نفس الدور. خاتمة: إن الجذور الثقافية لظاهرة السلطة تضرب بعمقها في الثقافة المغربية عبر السلوكيات الثقافية والاجتماعية خصوصا تلك المرتبطة بالزوايا والأنماط التربوية التقليدية الأخرى، وهذا ما يتطلب عملا سوسيولوجيا جبارا، يتجاوز بعض الطروحات السياسية لمشكلة السلطة.وقد نجح عبد الله حمودي في عمله " الشيخ والمريد" في وضع البحث السوسيولوجي والانثروبولوجي أمام محك ظاهرة السلطة، التي طالما استعصت على البحث العلمي. الهوامش. أنظر الدراسة العلمية لعبد الله حمودي: "الشيخ والمريد"، ترجمة: ع.المجيد جعفة، دار تبقال للنشر، ط.2/ 2000 (1). ص:33 (2).ص:37 (3).ص:38 (4)ص:41 (5).ص:42 (6).ص:42 (7).ص:57 (8).ص:54 (9).ص:69 (10).ص:80 (11).ص:85 (12).ص:93 (13).ص:114 (14).ص:132