رغم الارتباك الذي ميز تسويق الكمامات المصنعة محليا، ورغم النقاش الذي أثير حول مراعاة المعايير الواجبة في تصنيعها، الذي يحتاج إلى توضيحات من الجهات التي يهمها الأمر، لا بد من التذكير بأن الكمامات أفضت إلي اندلاع حرب شعواء بين الدول. فقد رأينا كيف دول سبيل شحنات موجهة إلي دول أخرى كي تتيحها لمواطنينها، هذا ما دفع بلدا مثل المغرب إلى السعي إلي تصنيعها في مصانع محلية وبسواعد عمال محليين. وقد شهدنا كيف تمكنت وحدة صناعية متخصصة في أنشطة صناعة الطيران بالدار البيضاء، من إنتاج أجهزة تنفس اصطناعية محلية الصنع موجهة للمصابين بفيروس كورونا. ولم يتردد أحد المهندسين المشاركين في ذلك المشروع في التأكيد بالكثير من الفخر بأن تصميم، هو مغربي بالكامل. وقد أسفرت الحاجة عن نزوع إبداعي مغربي مثلج للصدر. فهذا يصمم بوابة للتعقيم الآلي لجسم الإنسان، وهؤلاء يخترعون آلة تضاعف قدرة أجهزة التنفس الاصطناعي، وأولئك الطلبة يبتكرون درونا للكشف عن المرض وتطبيقا يسمح بالاتصال بين الأطباء والمرضى والتحقق من الأعراض التي يعانون منها، ونظاما للتنفس الرقمي الذكي.. إلخ توفير الكمامات محليا، رغم بساطة التصنيع، والصعوبات في التوزيع والنقاش حول المعايير، وتصميم جهاز التنفس الاصطناعي، رغم تعقيده، وتلك الاختراعات التي يعلن عنها بين الفينة والأخرى، مبادرات مغربية خالصة تستدعي استخلاص درس بليغ: الحاجة أم الاختراع. فالجائحة وما ترتب عنها من عدم يقين لم حالة الهلع الدولي، أفضت إلى الاستنجاد بذلك النبوغ المغربي، الذي حصر في الأعوام الأخيرة في تدخلات فنية لا تسعى إلى النفاذ إلى عمق الأشياء. ما حدث من استنهاض للهمم من أجل توفير الكمامات وأجهزة التنفس وغيرها من الابتكارات، يعني أنه بالإمكان أحسن مما كان، حيث يمكن للمغاربة أن يتصدوا لتصنيع بعض حاجياتهم دون الحاجة، لاستيرادها. يكفي أن تتوفر الإرادة السياسية قبل التقنية من أجل ذلك. تلك الإرادة الحازمة والواثقة والمتفائلة، سنكون في حاجة ماسة إليها، بعد هذه الأزمة في ظل التحولات المرتقبة بعد الجائحة في العديد البلدان. لقد كان تصرف أصحاب القرار هنا وهناك، خاصة مع إحباء سلوكات قراصنة في الحرب من أجل تأمين الكمامات على بساطة تصنيعها يعكس شعار: بلدي أولا. ولعل التحولات التي ستخترق الاقتصاد العالمي ستفرض على العديد من البلدان الانكفاء على ذاتها من أجل تضميد جراحها. وتضميد الجراح الاقتصادية، سيفضي على الصعيد الصناعي، إلى لجوء بلدان كانت تبحث إلى عهد قريب عن ترحيل Délocalisation بعض أنشطتها إلى بلدان أخرى تتيح امتيازات تنافسية عبر الأجور أو الجبائية أو هما معا، إلى استعادة تلك الأنشطة إلى أراضيها Relocalisation بدعوى الإنعاش الاقتصادي محليا وتوفير فرص العمل. يمكن لدروس هذه الظروفية الصعبة، أن تحيي النقاش حول التوجه القائم على التصنيع من أجل تعويض الواردات. هذا توجه اقتصادي يقوم على تقليص حصة الواردات بهدف تطوير الإمكانيات الصناعية للبلد، ما يتيح، في أحد أبعاده، الاستجابة للطلب الداخلي. بطبيعة الحال يمكن لهذا التوجه أن يترافق مع نوع من الانفتاح على المهن المعتبرة عالمية من أجل التصدير، في ظل سياسة صناعية حقيقية. وعموما يفترض أن يثار نقاش عمومي حقيقي، الذي يجب أن يقارب السؤال التالي: هل يجب التركيز أكثر على صناعات يتوفر فيها المغرب على خبرة كبير والمتضمنة لقيمة مضافة محترمة، والتي أحصت المندوبية السامية للتخطيط بعضها أم أنه يجب المضي في السياسات القائمة على ما يرحل إلى المملكة من أنشطة صناعية مع خلق منظومات حولها؟ ومهما يكن، سيكون على بلد مثل المغرب أن يستخلص الدروس من قصة الكمامات وأجهزة التنفس والابتكارات المعلن عنها، ويعيد النظر في جوانب من سياسته الصناعية، بما يتيح تكوين نواة صلبة للإنتاج المحلي مع دعمها بالبحث والتطوير، بالموازاة مع المهن العالمية التي راهن عليها في الأعوام الأخيرة. الانصياع للعولمة لا محيد عنه، لكن لا مفر من تصويبات. لا يعدم المغرب سوابق تاريخية كان فيه السعي إلى التحكم في مصيره الاقتصادي حلما جاهد من أجل بلوغه بالكثير من الإقدام والثقة، يمكنه أن يستعيد لحظات من محاولات مقدامة في الستينيات القرن الماضي عندما انتقل من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. لنستعد اللحظة التي سعى فيها المغرب إلى فك الارتباط مع الفرنك الفرنسي والتحول إلى الدرهم المغربي. ذلك مسعى كرس في قرار في أكتوبر 1959، ما تسبب في أزمة حادة بين المغرب وفرنسا، بعدما طلب وزير المالية الفرنسي أنطوان بيني من السلطات المغربية ربط الفرنك المغربي بالفرنك الفرنسي، الذي خفظت قيمته ب17.5 في المائة، وهو ما رفضته المملكة. كان للخروج من منطقة الفرك الفرنسي، آثار من بينها التضييق المالي وهروب الرساميل، ناهيك عن التدابير الانتقامية التي اتخذتها فرنسا، فقد أوقفت المساعدات والقروض والدعم وتجميد الحسابات المغربية. تلك وضعية زجت بمالية المملكة في وضعية كارثية، لكنها تمكنت من تجاوزها بتدابير جعلت الدرهم يشق طريقه بسلام نحو ما هو عليه اليوم. هاكم مثالا آخر فقد كان الهاجس الرئيسي للمغرب التخلص من هيمنة الأوساط الاستعمارية على الفوسفاط، الذي شكل في بداية الاستقلال المصدر الرئيسي للعملة الصعبة، حيث كان يفترض البدء بمغربة إدارة المكتب الشريف للفوسفاط، الذي عرف في تلك الفترة حضورا كاسحا للأطر الفرنسية، الذين كانوا يطبعون تدبيره بمسحة استعمارية خالصة، فقد قرر عبد الرحيم بوعبيد، وزير الاقتصاد والمالية في تلك الفترة رصد مخصصات المكتب الشريف للفوسفاط لتمويل ميزانية التجهيز، حيث أتاح للدولة الحديثة التحكم في إيرادات القطاع، من أجل عدم، الارتهان، بشكل كامل، لمخصصات الخزينة الفرنسية لتمويل نفقات التجهيز. لم يوجد أي إطار مغربي في إدارة المكتب الشريف للفوسفاط، وعندما اتخذ قرار إقالة الكاتب العام المكتب، شعر مديره العام الذي كان فرنسيا بأن الأمور تتغير فسعى إلى إحراج المغرب بتقديم استقالته، هكذا سعت الأطر الفرنسية إلى الضغط على الحكومة، عبر تقديم استقالات جماعية، كما حدث عندما قرر الرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وهو الأمر الذي كان كفيلا بالتسبب في اختلالات في عمل المكتب وتزويد السوق، غير أن قرار المغربة كان نافذا.. ومادام الشيء بالشيء يذكر، لنستحضر كيف استطاع المغرب أن يتحول إلى لا عب حاسم في سوق الفوسفاط ومشتقاته منذ 12 عاما، عندما قرر عدم الاكتفاء بتصدير المعدن الخام، وسعى إلى تثمينه عبر وخلق قيمة مضافة عبر الأسمدة.. ذلك لم يتم دون صعوبات ظاهرة وخفية و استحضار للمحيط الدولي بطبيعة الحال. لا يحتاج الأمر في الكثير من الأحيان سوى لقرار سياسي وتعبئة الناس حوله. ما يحدث اليوم يمكن أن يدفع إلى تبني عقيدة جديدة في مجال التبادل الحر، فعندما أثيرت مسآلة إغراق السوق بمنتوجات الألبسة والنسيج من تركيا، أغفلت مسألة أساسية لها علاقة بصناعة النسيج المحلية. فلم يكن النقاش حول الصادرات التركية ليثار، لو استطاع المغرب البناء على التجربة الكبيرة التي اكتسبها في ذلك المجال على مدى عدة عقود وأحدث منظومة محلية تستجيب للسوق المحلية وتصدر. والحال أن المنتجين المغاربة لم يبتكروا في هذا المجال، بل قنعوا بالطلبيات التي يتلقونها من شركات كبرى عالمية دون أن تكون لهم أية قيمة مضافة. لنتأمل في معطى أساسي: 55 في المائة من الصادرات المغربية رهينة بالطلبيات التي تقدمها شركة إنديتكس الإسبانية. هناك صناعات لا تحتاج إلى الكثير من الخبرة التقنية من أجل الانخراط فيها. صحيح آن المغرب تمكن عبر المخطط الأخضر من توفير عرض وفير من الخضر والفواكه، خاصة من أجل التصدير، لكن ما العلاقة بين الإنتاج الزراعي والصناعة الغذائية؟ يبدو أنها ليس بالجدلية والسلاسة المفترضة. لقد رأينا كيف أن منتجين للحوامض عمدوا في العام الماضي إلى التخلص من محاصيلهم في الشارع بسبب ضعف الأسعار، بينما كان يفترض توجيهها لمصانع توفير العصير. ذلك لا يحتاج إلى علم غير متاح لو كانت الرؤية متوفرة. وهي الرؤية التي كان يتوجب الاسترشاد بها من أجل تحصين المغرب ضد الإمعان في استيراد منتجات أساسية مثل الحبوب. يفترض في المغرب استخلاص الدروس من ماضيه وحاضره قبل الأزمة وفي ظلها. لنفكر في التالي: لو حافظنا على مصفاة سامير ولم تغلق قبل خمسة سنوات، كان المغرب سيتوفر على آلة تكريرية تتيح له تكوين مخزون من الوقود وتوفيره بأسعار مناسبة. فتلك المصفاة التي شيدها المغرب منذ الستينيات من القرن الماضي، كان الهدف منها تجنيب المغرب تقلبات السوق العالمية وتأمين حاجياته من المحروقات.. ولنستحضر قطاع السيارات مرة أخرى: في الستنيات من القرن الماضي، استنجد المغرب بخبرة فيات الإيطالية، حيث شرع في إنتاج السيارات بمصنع صوماكا.. ذات السياسة التي انتهجتها الهند في تلك الفترة.. واليوم مازال المغرب يستطقب المغرب شركات سيارات لتركيب سياراتها بالممكة.. بينما تمكنت الهند من صناعة سيارتها الخاصة، وأضحت تسوقها بالمملكة. النهوض والصعود في الكثير من التجارب العالمية، رهين بإرادة تعكسها نحب قادرة ومقتدرة، تعبيء الناس حول مشروع يتجه نحو المستقبل، ويساهم في ترسيخ العيش المشترك القائم على قصة مشتركة تحصن، حكيا وواقعا، ضد الهزات التي يمكن أن تأتي من فيروس لم يؤخذ يوما بالحسبان.