ذهل الكثيرون لما شاهدوا صور معمر القذافي و ابنه المعتصم، مضرجين بالدماء، يشتمون و يضربون و يهانون، ثم تعرض جثتهم على الملأ، بينما يتسابق الثوار الليبيون في أخذ الصور و التسجيلات مع الجثت و كأنها بقايا حيوانات تم قنصها في غابة. كانت الصدمة على قدر الأمل في أن يكون إنتصار الثورة الليبية بداية لإخراج بلاد عمر المختار من إستبداد حاكم مجنون تسلط على الرقاب و العباد لأكثر من أربعة عقود إلى نظام نبيل تحترم فيه الحقوق و يكرم فيه الإنسان و يقام فيه العدل حتى و لو كان الجاني جبارا متكبرا. كانت الصدمة في حجم التطلعات أن تصير أيدي الثوار أنظف و أنقى من أيدي القذافي الملطخة بدماء الشهداء و الأبرياء، كدم المرجع الشيعي موسى الصدر، مرورا بأرواح من ماتوا في الطائرة التي أسقطها أزلام الطاغية في لوكربي و إنتهاء بمن استشهدوا في مصراتة وبنغازي.
كل من صدمته تلك المشاهد هو على حق أخلاقيا و مبدئيا. فبدون شك أن من باب إحترام حقوق و كرامة الإنسان كان من الأجدر أن يحاكم القذافي على جرائمه أمام محكمة عادلة، لا أن يسحل و يقتل و يمثل بجثته كما رأينا.
غير أن من يلقون باللائمة على ثوار ليبيا ينسون أن الأمر مختلف تماما عن ما وقع في تونس و مصر. فتغيير النظام في ليبيا لم يكن عاديا و سلميا من بدايته إلى نهايته. إسقاط نظام القذافي كان عبر حرب عنيفة، دامية، قتل فيها أكثر من خمسين ألف شخص. لولا تلك الحرب لما تم إجثات حكم العقيد من جذوره و إقتلاع بنياته السياسية و الإقتصادية و العسكرية بالقوة و السلاح. الصراع بين القذافي و الثوار كان صراع بقاء و وجود، يكون فيها أحد الطرفين يا قاتلا أو مقتولا.
ما وقع في ليبيا هي ثورة حقيقية كجل الثورات التي عرفها التاريخ يكون المحرك فيها في البداية إنتفاضة على الظلم و التجبر ثم تظهر تدريجيا نزعات متجذرة فينا كبشر مثل حب الإنتقام ، و التشفي في الظالم و المعتدي، و تقطيع جسده أطرافا و إربا لو أمكن ذلك. لنا في التاريخ أمثلة عديدة على ذلك: بعد إندلاع الثورة البولشفية في روسيا سنة 1917, التي نشبت كردة فعل على الإقطاعية و الإستبداد و الرغبة في تحقيق مبادئ العدل الإجتماعي والمساواة، اقترف الثوار فظائع و جرائم ضد خصومهم. فقد اعدمت كتيبة من الثوار القيصر نقولاي الثاني و زوجته و أطفاله الخمسة رميا بالرصاص، بدون محاكمة و دون إعتبار لصغر سن أطفال القيصر، حيث أن أكبرهن كانت فتاة لا يتجاوز عمرها ثمانية عشر سنة.
أما في إيطاليا و بعد سقوط النظام الفاشي سنة 1945, فقد أعدم موسوليني وعلقت جثته و جثة عشيقته من الأرجل في ساحة عامة بميلانو،لمدة أيام، فكان المارة يبصقون على جثة الدكتاتور و يشبعونها ركلا و ضربا، حتى تشوه وجهه و فقأت عينه. مثال أخر تعطيه الثورة الرومانية سنة 1989, حين إعتقل الثوار الرئيس تشاوسيسكو و زوجته إيلينا و أعدما بعد محاكمة صورية لم تدم أكثر من ساعة، و دفنا في قبرين مجهولين بدون إسم أو شاهد.
أما التاريخ الإسلامي فحافل و مليء بمثل هذه الحوادث، حيث يصفي الثوار أعدائهم و يخوضون في دمائهم حتى المناكب. فمثلا حين ثار العباسيون على الخلفاء الأمويين ، بنصرة من أهل فارس و العراق، فقد إرتكب المنتصرون مذابح كبرى، لكي ينتقموا مما فعله الأمويون ببني هاشم و بأهل البيت، كما عبر عن ذلك أحد شعرائهم بقوله :
طلبوا وتر هاشم فشفوها بعد ميل من الزمان وباس فمن بعض ما يحكيه الرواة و المؤرخون عن تلك المذابح، أن أبا العباس السفاح، أول خليفة عباسي، كان قد أحضر جماعة من بني أمية, فقتلهم ثم وضع بساطا على أشلائهم و جثتهم و قعد يتناول طعامه فوقهم و هو يقول "والله ما أكلت أكلة أطعم و لا أهنأ على نفسي منها
ليس في الأمر تسويغا أو تبريرا لمقتل القذافي بتلك الطريقة، لكن يجب أن نفهم أنها كانت ثورة و حربا، يعود فيها الإنسان إلى غرائزه و إلى نزعاته الطبيعية، التي لا ينفع معها لا قانون و لا قواعد، المعيار المؤثر و المحدد فيها هو أول واقدم القوانين : "العين بالعين و السن بالسن"، قانون الإنتقام. من رأى الثوار الذين قبضوا على القذافي و هم يصيحون "مصراتة، مصراتة، يا كلب" سيفهم و يعي أنهم يثأرون لقتلاهم الذي ربما كان من بينهم اخوان أو اباء أو أحباب لهم. أي واحد منا كان في محل هؤلاء الثوار و سقط بين يديه قاتل أبيه أو أخيه، فلربما كان سيفعل مثلهم و أكثر و أنكى.
مخطئ إذن من يربط بين الثورة و ضرورة التحلي بأخلاق فاضلة تحترم حقوق الإنسان و كرامته، و مخطئ أكثر من يربط بين الثورة و حلول الديمقراطية فلا علاقة بينهما. فثورة ليبيا ربما ستكون مثلها كجل الثورات التي عرفها التاريخ، إنطلاقا من الثورة الفرنسية حتى الثورة الإيرانية، تبدأ بصرخة ضد الظلم، ثم تتحول إلى حمام دم و تنتهي أحيانا بمجيء نظام أسوأ و أكثر قسوة و توحشا من النظام السابق. و صدق سيوران، الفيلسوف الروماني، الذي كان شاهدا على عدة ثورات حين قال " يجب أن نكون دائما مع المظلومين ضد الظالمين، حتى و لو كانوا على خطأ، دون أن ننسى أن الظالمين و المظلومين عجنوا جميعا من نفس الوحل و نفس الطين المتسخ". فنفس الرحم التي ولدت القذافي، انجبت قاتليه.
مع الإعتذار لأمير الشعراء أحمد شوقي و بيته الشهير : و للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق ***