سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الشعب، الشعب يريد أن يقاطع نفسه! من سيقول للشعب بأن نقطة التوازن في السوق يحددها قانون العرض والطلب، وبأن رأس المال يجب أن يكون حرا وإلا رحل إلى مكان يستوعب اقتصاد السوق =غباء المقاطعة بالارقام=
الشعب يريد… يريد الحليب والمياه المعدنية والبنزين بنصف الثمن. ولم لا مجانا؟ فهذه الحركة الكبرى المستمرة حتى اللحظة، ليست سوى نداءات افتراضية بلا هوية وبلا صاحب، لذلك تفضل وتطلب ما تشاء من خلف الشاشة. والشعب يعتقد جازما أن هذه المنتوجات غالية الثمن بفحش لأن هناك مؤامرة تحاك ضده. لأنه مقهور ومحقور ولأنه يحلب حلبا، ولأن الرأسمالية المتوحشة تتلذذ بمص دمه وتفقيره لكي يظل عبدا عندها ويشتري حليبها صاغرا. ليس لأن الفلاح المغربي غير تنافسي بالنسبة لفلاحي أمريكا وأوروبا، وليس لأنه يستعمل وسائل بدائية للإنتاج، وليس لأن البقرة المغربية تنتج في المتوسط 2300 لتر سنويا بينما البقرة الأمريكية تنتج 9800 لتر من الحليب الحقيقي. وليس لأن استهلاك المغربي للحليب لا يتجاوز 70 لترا بينما يستهلك الفرنسي 300 لتر سنويا، وليس لأن معدل التضخم يتجاوز 2% سنويا ويستحيل على أي شركة أن تبقي الأسعار ثابتة إلا اذا زادت المردودية أو انخفض الثمن سنويا بهذا المعدل عند الفلاح. كل هذا لا يهم. ومن يهتم بالأرقام والمقارنات. من سيضيع وقته الثمين في حسابات نافلة. أقصد العين تشرب يقول المغربي. أطلبْ من الشركات أن تخفض الثمن وتدخل في حساباتها وحدد لها المكاسب وقسم لها الأرباح وأضبط لها حصص السوق. كلشي ديالنا وحنا مواليه، كما يقول الغيوان. يا لها من شاعرية وثورية حالمة، أن يتحكم باقتصاد السوق والماكرو والميكرو وكل تلك النظريات الاقتصادية المعقدة مطلع أغنية ومنشور مجهول المصدر على الفيسبوك. عليك فقط أن تشتهي وتطلب ما تشاء، ولا تهتم بكون الدولة تحمي الفلاحة المغربية العليلة عبر الجبائية الجمركية وتتدخل بميزانية ضخمة لتسمح لآلاف الفلاحين، الذين لا يساوون شيئا أمام ماكينة الانتاج العالمية، أن يستمروا في انتاج حليب ولحم وقمح باهض الثمن، أي عديم القيمة، لكي لا يغادروا البادية ويستقروا هم أيضا في الفيسبوك، ليطلقوا حملات غبية لمقاطعة أشياء جديدة. بينما يمكنها أن تحقق لك رغبتك بكل بساطة وتغرق السوق بالحليب الرخيص من الخارج. ورغم كل هذا يتساءل الشعب باستغراب وحيرة، لماذا لتر الماء في كندا بنصف درهم؟ من سيشرح للشعب بأن كندا تجلس فوق أكبر مخزون مائي على وجه الأرض وبأن المكتب الوطني للماء في المغرب يستغل أغلب المصادر المائية والعيون والمياه الجوفية، ولا يكاد يترك شيئا للشركات الخاصة من أجل رخص الاستخراج والتوزيع، ومع ذلك وبالكاد يستطيع توفير حاجيات الفيسبوكيين المتذمرين عبر الصنبور. من سيقول للشعب بأنه يعيش في شبه صحراء. هل سيحكي أحد للشعب قصة قبل النوم، قصة الرجل الذي اختار الماء بدلا عن الذهب في الصحراء. من سيقول له بأن نقطة التوازن في السوق يحددها قانون العرض والطلب، وبأن رأس المال يجب أن يكون حرا وإلا رحل إلى مكان يستوعب اقتصاد السوق ويلتزم بقواعده مهما كانت النتائج. وأنه وإذا كانت تجارة الحليب والماء المعدني تحقق ثروة خيالية كما يتخيل، لكان الجميع يستثمر في الحليب كما يستثمر الجميع الآن في المقاهي التي تنطلق منها مثل هذه الحملات. من سيقول للشعب بأن هناك شيئا إسمه مفارقة جيفن، أنا أعتذر لأنني ذكرت كلمة مفارقة في موقع كود فهذه إهانة للموقع، والمفارقة تثبت بأن ثمن المواد الأساسية لا يتأثر بزيادة الإنتاج وإنما يزداد استهلاكها أكثر حينما يزداد ثمنها عكسا على باقي المواد. لكن الشعب قد فهم فجأة كل شيء، ولا يحتاج لشروحات مخاطية وقميئة مثل هذه، وحذار من شعب إذا فهم. فهو مستعد الآن بعزيمة نادرة لأن يفقر آلاف الفلاحين ويفلس أحد أقدم الشركات في المغرب، ولم لا كل الشركات؟ فكم نحب أن نضرم النار في الأشياء ونستمتع بتدميرها فقط لأننا لا نستطيع امتلاكها، وسيحتفل بذلك لكي يثبت لرأس المال أنه موجود وصاحب قرار. ولذلك أنا أحب هذا الشعب وأفتتن به كظاهرة. مثل أي شعب قديم ومتجذر في احداث الفوضى وخبط العشواء والانقياد وراء التفاهات. فيكفي أن تطلق صفحة يديرها مراهق أي تفاهة سخيفة حتى يتحول الأمر عبر المشاركة والإعجاب إلى فلسفة حياة يعتقد بها الملايين. ويمكن لأي هراء منشور في مجموعة لزواج الموظفين والمعلمين أن يتحول بكل بساطة إلى نبوءة مضيئة لوطن بأكمله. ولقد خرج فعلا الآن أنبياء للمقاطعة علينا بحلول خلاقة ومبدعة. يدعون الشعب أن يذهب عند الفلاح النشيط والودود والقنوع ويشتري منه الحليب مباشرة. يا لها من عبقرية. اترك عملك وأشغالك وسافر إلى ضيعات برشيد وبوسكورة والتق يوميا بذلك الفلاح الذي تنفر منه ومن جلافته وتشمئز من تصرفاته ورائحته في الحافلة والتاكسي والأماكن العمومية، ولم لا تتزوج بناته بالمناسبة وتحل مشكلة العنوسة في البادية، وقد لا تحتاج أن تدفع له نقدا بل قايضه بهاتف أو بحذاء رومي وعد إلى العصر النيوليتي، واستمتع بالطبيعة الخلابة وروائح الروث وبرغوت الكلاب المسعورة وأنت تغدق شفقتك المدينية على ذلك الفلاح المسكين الذي ينتظرك بفارغ الصبر وعلى وجهه المشقق ابتسامة حنونة. كان أينشتاين متيقنا من أن للكون نهاية وحدودا، لكنه قال بأنه يشك في أن للحماقة البشرية حدودا. ومع ذلك أبقى متفائلا حول حدود الحماقة المغربية، لأن الشعب مازال له ترف الاختيار بين حليب وحليب وماء وماء، وسأخاف من اليوم الذي لا “رايب” فيه. ساعتها يمكن أن يرتعد رأس المال وأخنوش ومريم بن صالح والآخرون. وما يحصل الآن ما هو إلا مجرد تعسر وحمى بسيطة لمجتمع يحاول أن يلحق بالحداثة مديرا إيها ظهره وموليا وجهه شطر شيوخ السعودية ومصر والممثلين الأتراك. والدرس الأهم في هذه الحملة أننا لم نعد نقاطع اليهود والأمريكان والدنماركيين كما كان يحصل في الماضي القريب، فلقد تقادمت تلك الموضة النضالية، الآن نقاطع أنفسنا ونبتر أجزاء منا كنوع من التطهر، من دون دوافع أخلاقية ولا دينية ولا نضالية ولا وصاية كهنوتية. هراء مغربي خالص متداول على صعيد واسع مدفوع فقط بالنفعية والربح والرغبة في الاضرار بالآخرين لكي ننتفع نحن. لذلك أقول لكل من تزعجه حمى المقاطعة ومدى انتشارها، لا تحزن. فإن رأس المال معنا، وهو يربح دائما وبجدارة. فلن يحصل شيء جدي. على أقصى تقدير ستستمر هذه الحماقة حتى شهر رمضان، ساعتها سينسي جوع الصيام كل سكان كوكب الفيسبوك هذه البغضاء الطارئة بينهم وبين الشركات. سيقف الفيسبوكي المتعصب أمام حليب سانطرال المتبقي في ثلاجة مرجان وسيتذكر عصير لافوكا على الافطار وسينهار. وستعود المياه المعدنية إلى مجاريها وسيسري الحليب المغشوش مجددا في مصارين المقاطعين وستستمر الأسعار في الزيادة كما يجب أن يحصل حسب منطق الاقتصاد والأزلية، ولن يوقف ذلك أحد. وحتى إذا أفلست كل الشركات المستهدفة فلن يغير ذلك شيء. سيعاد توزيع رأس مالها وحصتها في السوق على باقي المنافسين وستصبح شركة كوباك (جودة) أكثر رأسمالية ووحشية مما هي عليه لأنها لن تجد منافسا قويا، وسينبثق المزيد من الحليب المخفف وغير المبستر في صهاريج المحلبات (30 بالمئة حاليا من مجموع الحليب المنتج)، وستطلق الدولة من مال المقاطعين برنامجا مهيكلا بميزانية وصندوق خاص كثقب أسود لدعم الفلاحين المتضررين من فقدان موزعهم الرئيسي، وستحدد شييل وطوطال من مكاتبها المكيفة في هولاندا وفرنسا الثمن الذي تشاءان بعد أن تختفي شركة أفريقيا، مطرب الحي الذي لا يطرب. لأنه وببساطة، لا شيء جدي يحصل في هذه البلاد الهانئة أساسا.