قطعنا نحن الثلاثة مسافة غير طويلة تفصل من المكتبة الوسائطية في مدرسة المصلى ..هذا الإسم الذي أعرف.. الى مطعم الخبز الحافي في فندق ريتز وسط المدينة .. عبد اللطيف بنيحيى و محمود عبد الغني و أنا. كنا قد أنهينا لقاء حول روايتي “معجم طنجة” و ” أوسكار” مع تلاميذ و طلاب و شباب. بنيحيى تكلم مفصلا عن طنجة التي يعرف كما يعرف راحة كفه..أحشاء المدينة و تاريخها و أعلامها و بحاراتها و كتابها و رساميها و زواياها الصوفية و حاناتها و مجاذيبها و صعاليكها و مجانينها و من مروا من هنا و من قضى نحبه و من لا زال ينتظر.. كان لقاء مفيدا و حميميا و هادئا جعل الحاضرين منتبهين بمتعة للكلام.. محمود عبد الغني تكلم كيف كتب و لماذا كتب عن طنجة و جعلها فضاء روائيا و بحث فيها مثلما فعل كتاب عالميون عن مدن أخرى فاس مع ليون الافريقي و القاهرة مع نجيب محفوظ و إستنبول و باريس و نيويورك و الدارالبيضاء و بيروت مع كتاب معروفين. الطريق عبر عين قطيوط و الساحة الحديقة ثم الصعود في العقبة ثم شارع المكسيك و تقاطع شارع بلجيكا و شارع فاس ثم الانعراج نحو اليمين و النزول قليلا الى موسى بن نصير حيث الريتز .. في الريتز ينتظرني عبدو جلال و ستكون لحظة رائقة رفقته. المفاجأة الثمينة أنني وجدت في الكرسي القريب عبد الكريم واكريم الكاتب و الناقد السينمائي و صديق الطفولة في مدرسة الجولان. الأماكن هادرة مشعشعة بالبشر نساء و شيوخا و أطفالا من مختلف الاعمار و باعة مزدحمون و أبواق السيارات و مقاه مكتظة و بداية ربيع خجول يترنح و يتدبدب مع الرياح و البرد و المطر و رغبتي الملحة في بيرة تزيل تعب السفر.. مررنا على ما كان يسمى سينما المغرب..لم أميز ملامح المكان.كل شيء تغير..آآآه يا سينما المغرب.. و القصير الذي كان يحمل سوطا ليضربنا.. كان الحارس العام الحقير لسينما الفقراء القادمين من هوامش المدينة الصغيرة. لاشي ساكن الكل في حركة إنك لن تستطيع أن تستحم في النهر مرتين يقول الفيلسوف. طنجة تبدلت بشكل فظيع.. المدينة تغيرت يقول لنا عبد اللطيف بنيحيى و نحن نسرع الخطوات وسط جلبة و زحام” راس المصلى” حيث باعة كل شيء و باعة كالينتي و بقايا سينما لوكس التاريخية الأنيقة العظيمة التي تحولت الى محلات تجارية تبيع الملابس و الاثواب و الهواتف الذكية و العطور المستوردة من تركيا و الصين.. ها هي سينما لوكس يقول لي بنيحيى فتعود بي الذاكرة الى “جون ترافولتا ” في أولى أفلامه التي أخرجته للشهرة العالمية.. هنا شاهدت في تلك السنة الغابرة فيلم” ساتورداي نايت فيفير” حمى ليلة السبت . كان خيالنا و حواسنا تحلق مع أغاني” بي جيس” التي كانت مسكنا لأوجاع الروح.. كنت كعادتي أتحدث مع عمر الآخر الذي يرافقني دائما..أتحدث مع نفسي صامتا و اكتفيت بالرد على عبد اللطيف: أييه ..نعم نعم خاي ديالي.. فينك يا أيام اللوكس..؟ صمت قليلا و نحن نخطو وسط أمواج البشر.شارع المكسيك في المساء يتحول الى طواف و حلبة سباق.. سينما لوكس..”هكذا الأيام ” الفيلم الذي زعزع عقيدتنا و نورا مع فريد شوقي و فيلم الرعب الذي جربنا فيه قدرة تحملنا الفزع: ليكزورسيست..و الطفلة المسكونة بالجن و “ليكزرسيست ” الذي يصرعها. أن تدخل الى سينما لوكس في حصة من 10 الى منتصف الليل فمعناه أنك لم تعدا صبيا و قد كبرت و صرت رجلا. عبد اللطيف بنيحيى يعرف طنجة بشكل مذهل و يملك مفاتيحها و أقفالها و أسرار و حكايات الأماكن و الشخصيات. أنا الذي تربيت قريبا من ” واد ليهود ” و “مرقالة” و وسط “غرسة مولاي علي” و فال فلوري أكتشف أني طنجاوي مدرح..كما أني ريفي مزور..إختلطت علي الأشياء و الأماكن. في هذه المدينة عشت طفولة مقودة جدا..لكن كان من نصيبي الجميل أني قبل أن يزحف الأسمنت بحثت عن أعشاش الطيور و قطف السوسن و العشلوش في الربيع و فلايو و الجمار في الصيف.. كم كانت شاعرية هذه المدينة..كانت.. كانت..وفقدت شاعريتها كما تفقد إمرأة جمالها مع تقدم العمر.. عبد اللطيف الشاعر حين يشرع في الحديث عن المدينة يخطر في بالك ان تسجل كلامه و مروياته و استرساله ثم تجمعها في كتاب..عندما يتحدث عن الكاتبة “جين بولز” التي انتحرت في مالقا أو محمد المرابط صديق بول بولز الذي إشتهر بقصصه التي نشرها الكاتب الامريكي تشعر أنه ينحته نحتا و يدقق الوصف و ترى أمام عينيك المرابط في عز الشباب و الوسامة و العنفوان و تشم رائحة الكيف الذي يدخن. طنجة تغيرت كثيرا رأسا على عقب. طبعا ليست وحدها من لحقها التشويه و الميتامورفوز..مدن عديدة في العالم خضعت لنفس القانون. قانون العمران و التحول و أثر البشر على المكان.. دينز بار ليس هو” دينز بار”. وشارع الحرية ليس هو شارع الحرية.. و مدام بورت أصبحت ماكدونالدز. و محمد شكري مات و لا أحد يتذكر لوحات الحمري و الميناء لم يعد يسمعنا صفاراته و باخرة إبن بطوطة التي تدخل منتصف النهار في البلايا من الضفة الأخرى صارت مجرد صورة من الماضي و النورس بدأ ينقرض و رائحة البحر تحولت الى رائحة عطر رخيص للملتحين .. طنجة تغيرت كثيرا.. تحولت بشكل مفاجئ كما تغير هذا العالم الذي يفقد كل يوم رونقه و يفقد روحه و يراكم الضجيج و الدخان و الهرولة و التيه ..