كل شيء صار عند الاتحاديين مرتبطا بالحنين. وقد حجوا أمس بكثافة إلى مسرح محمد الخامس ليتذكروا الماضي. ويذكرهم به عبد الرحمن اليوسفي. وتذكرهم به الشعارات. والصور. ولقاء الإخوة. فيتعانقون. ويحكون لبعضهم البعض عن أيام زمان. ويسألون عن الأهل. وعن الأولاد. وعن أحوال المناضل الفلاني. ولماذا اختفى. ولم يعد يظهر له أثر. ويضحكون. ويناقشون الأوضاع الداخلية. ويحللون كل شيء. بينما لا قدرة لأي أحد منهم على رؤية حاضرهم. إنه غير موجود. وينكرونه. ويتحاشون النظر إليه. ولا يعكس الحقيقة. وكلما أتيحت لهم فرصة ليشعروا بالحنين. وليستعيدوا الأيام الجميلة. فإنهم لا يفوتونها. وهذا ما وجدوه بالضبط في كتاب اليوسفي. وبعد ذلك مباشرة سيختفون عن الأنظار. كما في كل مرة. إلى أن يظهر كتاب جديد. أو يتوفى اتحادي. أو تحل ذكرى. وتحس أنهم واقعون في هوى النهايات. وكل ما انتهى يتشبثون به. وتشعر بحزن يأسرهم. وبحسرة. ولذلك يهربون إلى التاريخ. وإلى المذكرات. لأن لا شيء بمقدورهم قوله عن هذه اللحظة. وعن الآن. اللحظة الحالية غامضة بالنسبة إليهم. ولا يقوون على مواجهتها. ولا على تفسيرها. وليس لهم إلا الماضي. وإلا الرموز. وإلا اليوسفي. وإلا الاختفاء عن الأنظار. أو الجلوس في المقاهي وتبادل الحكايات عن الأيام الخوالي. وربما لهذا السبب كتبوا الشعر عن توقيع كتاب اليوسفي. وافتخروا بحضورهم الكبير. وبدا واضحا تأثرهم. وكانوا مفرطين في كل ما هو عاطفي. وكانت تلك اللحظة الإنسانية مؤثرة. وربما أبكت البعض. وهذا هو طبع الشخص الذين يعاني من داء الحنين المزمن. وتشعر أنهم منتشون. وأنهم محلقون في السماء. وليسوا في هذا العالم. بينما لم يحاول اليوسفي أن ينبههم إلى هذا الأمر. ولم يحاول أي أحد من الاتحاديين القدامى أن ينبههم. ولا أحد منهم يعيش الآن وهنا. وهناك راحة وطمأنينة في الماضي. وفي استرجاع الأحداث. ولا أحد يعيش حاضره. باستثناء الكاتب الأول الحالي. ولذلك لم يحضر. ولذلك غاب إدريس لشكر عن حفل عبد الرحمن اليوسفي. وقد حضر معظم الاتحاديين إلا هو. لأنه يعرف بذكائه السياسي أنه سيكون خاسرا لو واجهه الحنين. وأن أتباع الحنين سيرفعون ضده الشعارات. وقد يطردونه. فلم يذهب. وهو على علم بأن اللقاء سينتهي. وسينفض شملهم. وسيعود كل واحد إلى الوقت الذي يعيش فيه. وإلى الاختفاء عن الأنظار. وإلى المقاهي. وإلى التاريخ. وسيذهب أنصار الماضي التليد إلى ماضيهم. وستخف حدة حنينهم بالتدريج. وسيخلو له الجو بعد ذلك. وبواقعيته وبعيشه في الواقع وفي اللحظة الراهنة فهو يعرف أن الاتحاد الاشتراكي اليوم في مكان آخر وأنه في التجمع الوطني للأحرار وفي البام لكن ما أجمل الحنين وفيه تعويض. وفيه دواء. وفيه شفاء وخاصة إذا كان يتعلق بحزب اسمه الاتحاد الاشتراكي وبمجرد أن تبدأ الحكاية تتناسل منها حكايات أخرى. وبطولات. وأمجاد. وأسى. وحزن. وذكريات لا تنتهي. وحتى لو كان قلبك من حجر فإنك ستتأثر وستغرورق عيناك. آه آه أيها الاتحاديون ما أعظم حكايتكم. وما أغربها. وما أقساها. إنه تشبه الملاحم وتستحق أن تروى.