صرح الشيخ محمد الفيزازي بعظمة لسانه أنه رجل حداثي، وبإمكان الذين يشكون في توجهه الجديد أن يشربوا البحر، إن هم لم يصدقوا أقواله. شخصيا، يفاجئني الفيزازي كل يوم بتحولاته، فبمجرد خروجه من السجن، أصبح شخصا آخر، من الصعب التعرف عليه، ولولا اللحية والوجه والطاقية التي يضعها فوق رأسه، لقلت إنه المهاتما غاندي وقد بعث من جديد، نظرا لجنوحه الطارئ إلى السلم ونبذه للعنف، بشكل لم نتعود عليه من شيخ كان لا يرى إلا الظلام، وكان النور الوحيد الذي يبصره موجودا في طورا بورا ونواحيها.
فالدولة التي كان ينعتها بالكافرة أصبح يتغزل فيها و يعمل جاهدا على الدفاع عنها وعن ثوابت الأمة، والديمقراطية التي كان يشتمها كلما سنحت الفرصة، يخطب ودها هذه الأيام، ويفكر في الترشح في الانتخابات التي تنظم باسمها.
أيضا لم يعد يروقه مديح إخوته الإرهابيين، ولا الثناء على الإنجازات الجبارة لتنظيم القاعدة، ولا الدعوة إلى الجهاد وقتل المرتدين، فقد اكتشف وهو في السجن أنه كان مخطئا وأن الحداثة كلمة مغرية ومثيرة ويمكنه أن يضيفها هي الأخرى إلى نهج سيرته، الذي يتعزز على التوالي بأوصاف ونعوت كثيرة، حيث يمكن لهذا "السي في" الجديد الذي أضاف إليه قدرات ودبلومات أخرى أن يعثر بواسطته على أي عمل يطلبه، وفي أي حزب يريد وأي منصب، كما أنه بمقدوره أن يعود إلى هواية الغناء التي كان يعشقها، ولا عيب ولا حرج أن يردد أغنية"سواح" وأن يدندن مع عبد الحليم حافظ، كما كان يفعل في الماضي، وليذهب المغرضون الذين يشكون في نواياه إلى الجحيم.
في حقيقة الأمر لم يعد الشيخ محمد الفيزازي يفاجئني كثيرا، لقد تعودت عليه ب"اللوك" الجديد، ولم يعد يفزعني، كما كان يفعل في الماضي، حين رأيته لأول مرة في قناة الجزيرة، وخفت منه، وأطفأت الشاشة، وانتقلت إلى برنامج مسل كي أهدئ من روعي. كان الرجل حينها لا يتحدث إلا عن الدم والقتل والكفار والردة، وكان يرى الأشرار في كل مكان، وخفت أن يكسر الشاشة ويخرج لي وهو يرغد ويزبد، أما الآن فإنه أصبح رجلا آخر، تغير بالكامل، وصار ودودا، وأصبح مثلنا تماما مدافعا عن قيم الديمقراطية والحداثة، التي أظن أنه يمتلك القدرة والموهبة على أن يخترع لنا منها حداثة ثانية غير مسبوقة نضاهي بها الغرب وكل الأمم، وربما نطلق عليها اسم الحداثة السلفية الفيزازية، مع واجب تسجيلها وتحفيظها، لئلا يأتي هابرماس أو أي مفكر آخر، ويدعي أننا شوهنا الكلمة.
لكن ماذا تعني الحداثة السلفية الجهادية، إنها حسب الشيخ الجليل مقترنة بالعلم والتكنولوجيا، أما الحداثة الأخرى التي يرى أنها مرتبطة ب"العري والتفسخ والدعارة فهي حداثة مرفوضة" في نظره، أي أن رائد الحداثة السلفية ومخترعها يرى، والله أعلم، أن الطائرات التي تفجرت على الأبرياء في البرجين هي طائرات جد حداثية والذين ارتكبوا الجريمة ليبراليون متفتحون، وأن السكاكين والمطاوي التي تقطع بها الرؤوس والسيارات المفخخة هي قمة في التطور، وإذا كان فهمنا خاطئا، فإننا نرجو من الشيخ الجليل أن ينيرنا بعلمه. ينشر في "كود" باتفاق مع الكاتب