سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اجتهاد بوجود النص. مفهوم القوامة الذي يبني عليه الكثيرون التمييز في الإرث بين الجنسين فقد معناه وأساسه الاقتصادي فالمرأة لم تعد بعد قاصرة ومرتبطة ماديا بأبيها أو زوجها أو أخيها
ما إن تذكر قضية المساواة بين الرجال والنساء في الإرث، حتى ترتفع أصوات العديد من المحافظين بدعوى أن تلك قضية محسوم فيها وأن الجدل حولها مضيعة للوقت وتطاول على نص معلوم من القرآن، وكأن الأمر يتعلق بترف فكري أو نقاش هامشي وليس بمصالح وحقوق نصف المجتمع المغربي وكرامته. يرفع المحافظون شعار "لا اجتهاد مع وجود النص"، ويعللون موقفهم بوجود آيات من القرآن لا تقبل التأويل أو التدبر في سياقها التاريخي والاجتماعي. وهنا أزمة الخطاب المحافظ المغربي، المنكمش على نفسه والذي يعيش خارج الزمن، ولا يرى كيف أن الأحوال تتبدل وتتغير وأن سيرورة التقدم ماضية الى الأمام به أو بدونه. هذا التصور يقف عند حرفية النص الديني ولا ينفذ إلى روحه وجوهره ولا يحاول الفصل والتمييز داخل هذا النص بين ما هو متحول لأنه محكوم بزمانه وظروفه، كما هو الحال مثلا في ميدان المعاملات، وما هو ثابت لأنه يرنو إلى السمو بالنفس الإنسانية، كما هو الحال في الآيات والأحاديث المتعلقة بالأخلاق والعبادات. ولعل لنا مثلا في ذلك بقضية نصيب الرجال والنساء في الإرث. فقبل نزول الوحي وبداية الدعوة المحمدية، كانت المرأة محرومة بتاتا من أي حق في الإرث، حيث أن العرب، آنذاك، كانت تعتبر أن لا نصيب في ذلك إلا لمن يركب الخيل ويحمل السلاح ويذود عن مال العشيرة والقبيلة ويغنيه بالتجارة أو الإغارة على القبائل الأخرى. غير أن بعد مجيء الإسلام تغير الوضع، حيث أن بعض كتب السيرة والتاريخ تروي أن امرأة وابنتيها جئن عند الرسول وأخبرته المرأة أن زوجها قد قتل في معركة وأن أخ زوجها قد أخذ كل ما ترك المتوفى، فوجدن أنفسهن بلا معيل أو مصدر رزق. فنزلت بعد تلك الحادثة الآية التي تعطي للمرأة نصيبا من الإرث. كانت تلك الآية حينئذ ثورة في وجه الظلم والحيف الذي كان يصيب المرأة وخطوة لإنصافها وإعادة الاعتبار لإنسانيتها. خصوصا عندما نتذكر الدور الذي لعبته النساء في فجر الاسلام، حيث أن أول من آمن بالوحي الذي أنزل على محمد كانت امرأة وهي زوجته خديجة، كما أن أول من مات واستشهد في سبيل الإسلام كانت أيضاً امرأة، وهي سمية. فلم يكن من الغريب إذن أن تأتي تلك الآيات لتعطي لتلك النساء اللواتي وضعن اللبنات الأولى للدين الجديد بعضا من حقهن. غير أن هذه الروح الطامحة للإنصاف كانت رهينة ومسيجة بظروفها التاريخية والاجتماعية. أما الآن فإن الأمر ممكن حيث أن الزمان تغير والواقع تبدل ونحن أدرى بأمور دنيانا كما كان يردد الرسول. فمفهوم القوامة الذي يبني عليه الكثيرون هذا التمييز في الإرث بين الجنسين قد فقد معناه وأساسه الاقتصادي. فالمرأة لم تعد بعد قاصرة ومرتبطة ماديا بأبيها أو زوجها أو أخيها، بل هي الآن تدرس وتعمل وتشارك إلى جانب الرجل في إنشاء وخلق الثروة الوطنية، بل أن في أقل من نصف قرن من التعلم والتمدرس استطاعت أن تصل إلى مراتب لم يكن أجدادنا يتخيلونها. بل حتى داخل العائلة الواحدة قد تغيرت الموازين وأصبحت المرأة مساهمة أساسية في تحمل أعباء البيت المادية، حيث أن خمس العائلات المغربية، حسب أرقام رسمية، تعولهن امرأة. فبأي منطق يستقيم مبدأ "القوامة" في الإنفاق وأي سبب طبيعي يسمح بالتسليم والقبول به؟ أما الذين يتحججون بقطعية النص واستحالة الاجتهاد مع وجود أية قرآنية فهذا كلام مردود عليه. ذلك، أن مجموعة من الآيات مرتبطة بسياقات نزولها التاريخية والاجتماعية والثقافية. وهذا ما تنبه له بعض من الصحابة، سنوات بعد وفاة الرسول، حيث نجد أن الخليفة عمر بن الخطاب مثلا قد تعامل مع عدة آيات بمنطق التأويل. وهكذا رفض عمر أن يعطي نصيبا من الزكاة لمن كانوا يسمون ب"المؤلفة قلوبهم"، وهم أعيان ورؤساء قبائل أسلموا حديثاً وكان الرسول يعطيهم هذا النصيب ليحبب الإسلام لهم وليأمن خصوصا من شرهم وتقلبهم. رغم أن تلك الفئة مذكورة في القرآن عند تخصيص مستحقي الزكاة إلا أن عمر أعمل رأيه واجتهد واعتبر أن الرسول كان يمنح ذلك النصيب عندما كان الإسلام غضا، ضعيفا، إلا أنه عندما تقوى، لم يعد من مكان لهؤلاء الناس. حينها لم يهتف أحد في وجه عمر بأن "لا اجتهاد مع وجود النص"، ولم يعتبروه مبتدعا أو مارقا من الدين كما يفعل البعض في وقتنا هذا. ولعل خير من اختصر هذا المنطق هو علي بن أبي طالب عندما قال" إنما القرآن سطران بين ضفتي كتاب، تنطق به الرجال". نحن في حاجة، الآن، إلى اجتهاد ينطق بمضمون القرآن لا بحرفه، بروحه لا بغلافه، فينصف المرأة من حيف لا زال يمارس باسم الدين.